علامات و أسباب حسن الخاتمة و سوء الخاتمة
|
|
مدونة المهاجر
مدونة المهاجر نشر المعلومات لكل الناس
قائمة المدونات الإلكترونية
الاثنين، 10 أبريل 2017
الأربعاء، 5 مارس 2014
اهداء حركات مفاتيح الكمبيوتر
اهداء حركات مفاتيح الكمبيوتر
Shift + E ........: الضمة?
Shift + X ........: السكون?
Shift + Q ........: الفتحة?
Shift + A ........: الكسرة?
ذ? + Shift .........: الشدة?
Shift + Z ........: المدة?
Shift + W .......: تنوين فتح?
Shift + S ........: تنوين كسرة?
Shift + R ........: تنوين ضم?
Shift + T ........: لإ?
Shift + G ........: لأ?
Shift + Y .........: إ?
Shift + H ........: أ?
Shift + N ........: آ?
Shift + B ........: لآ?
Shift + V ........: {
Shift + C ........: }
Shift + F ........: ]
Shift + D ........: [
Shift + J .........: تمديد الحرف?
Ctrl + C ..........: نسخ?
Ctrl + X ..........: قص?
Ctrl + V ..........: لصق?
Ctrl + Z ..........: تراجع?
Ctrl + A ..........: تحديد او? تضليل الكل
?Shift + U ........: فاصلة معكوسة?
Ctrl + ESC ......: قائمة? المهام?
Ctrl + Enter ....: ابتداء صفحة جديدة?
Ctrl + Shift .....: لغة? عربية ( يمين? )
Ctrl + Shift .....: لغة إنجليزية ( يسار? )
Ctrl + 1 ..........: مسافة مفردة?
Ctrl + 5 ..........: مسافة سطر ونصف?
Ctrl + 2 ..........: مسافة مزدوجة?
Ctrl + G ..........: الانتقال إلىصفحة?
Ctrl + END .......: الانتقال إلى نهاية الملف?
Ctrl + F5 .........: تصغير نافذة الملف?
Ctrl + F6 .........: الانتقال من ملف لأخر?
Ctrl + F2 .........: معاينة? الصفحة قبل الطباعة?
= + Ctrl ..........: تكبير وتصغيردرجة واحدة?
F4 .................: تكرار أخر عملية?
Alt + Enter ......: تكرار أخر عملية?
Ctrl + Y ..........: تكرار أخر عملية?
Ctrl + F9 ........: فتح قوسين? جاهزين?
Shift + F10 .....: تعداد نقطي ورقمي?
F12 ...............: حفظ بأسم?
Shift + F12 .....: حفظ الملف?
Ctrl + Home ....: أول المستند?
Ctrl + End ......: أخر المستند?
Shift + F1 ......: معلومات عن نوع التنسيق?
Ctrl + U .........: سطر تحت النص?
Ctrl + F4 ........: خروج من الملف?
Ctrl + N .........: ملف جديد?
Ctrl + H .........: استبدال?
Ctrl + I ..........: خط? مائل?
Ctrl + K .........: تنسيق المستند?
Ctrl + P .........: طباعة?
Ctrl + O .........: فتح منطقة?
د? + Ctrl ..........: تكبير النص?
ج? + Ctrl .........: تصغير النص?
Alt + S .........: قائمة تنسيق?
Alt + J ..........: قائمةتعليمات?
[ + Alt ..........: قائمة جدول?
] + Alt ..........: قائمة أدوات?
Alt + U ..........: قائمة عرض?
Alt + P ..........: قائمة تحرير?
Alt + L ..........: قائمة ملف?
“ + Alt ..........: قائمة إطار?
Alt + Q .........: تعديل مسطرة?
Ctrl + E.........: توسيط النص?
Ctrl + F.........: بحث?
Ctrl + B.........: خط أسود?
Ctrl+Shift + P : حجم الخط?
Ctrl+Shift + S : نمط?
Ctrl + D.........: خط?
Ctrl+Shift + K : تحويلالحروف? - Capital
Shift + F3......: تحويل الحروف? - Capital
Ctrl+Shift + L..: وضع نقطة عند بداية النص?
Ctrl+Alt + E....: حواشي سفلية ترقيم روماني?
Ctrl+Alt + R....: وضع علامة? ®
Ctrl+Alt + T....: وضع علامة? ™
Ctrl+Alt + C....: وضع علامة? ©
Ctrl+Alt + I.....: معاينة? الصفحة قبلالطباعة?
Shift + F7.......: قاموس المرادفات?
Ctrl+Alt + F1...: معلوماتالنظام?
Ctrl+Alt + F2...: فتح الدلائل?
Ctrl + J .........: تسوية? النصمن الجانبين?
Ctrl + L .........: بداية النص من الجانب الأيسر?
Ctrl + Q .........: بداية النص من الجانب الأيمن?
Ctrl + E .........: توسيط النص?
Ctrl + M .........: تغيير المقاس الأعلى للفقرة?
Shift + F5 ......: الموضع? الذي انتهيت منه عند إغلاق الملف رجوع إلى
?= + Ctrl + Alt ...: تخصيص?
F3 .................: إدخال نص تلقائي?
F9 .................: تدقيق حقول?
F10 ...............: تحريك إطار لفتح النوافذ?
F1 .................: تعليمات?
F5 .................: الانتقال إلى?
F7 .................: تدقيقإملائي?
F8 .................: تحديد او تضليل منطقة او ملف?
ctrl+a ............:يعمل هذا الامر بتحديد الكل للنص او الكائن?
ctrl+c ............:بنسخ الذي تم تحديده يعمل هذا الامر
?ctrl+v ............:بلصق? المنسوخ يعمل هذا الامر
?ctrl+x ............:يعمل بقص الذي تم تحديدة يعملهذا? الامر
?ctrl+z ............:يمكنك التراجع عن اي امر عملته?
ctrl+p ............:هذا الامر يعطي لبرنامج التصفح او اي برنامج امر
بالطباعة?
ctrl+o ............:عن طريق هذا الامر يمكنك فنح ملف من اي برنامج?
ctrl+d ............:يجعل برنامج التصفح يحفظ الصفحة المعروضة الي
المفضلة?
ctrl+n ............:يجعل برنامج التصفح يفتح نفس الصفحة المعروضة مره
اخرى
?ctrl+f ............:يمكن لك بحث في البرنامج عن الكلمة?
ctrl+b ............:يمكن لك? ترتيب ملف المفضلة عن طريق هذا الامر?
ctrl+s ............:حفظ العمل الذي قمت? به?
ctrl+shift ........:يجعل مؤشر الكتابةيذهب الى اليسار في صفحة? الوررد
?ctrl+shift ........:يجعل المؤشريذهب الىاليمين في صفحة? الوررد
?alt+f4 ............:أمر مفيد يقوم بإغلاق النوافذ?
alt+esc ..........:يمكنك التنقل من نافذة الى نافذة?
alt+shift .........:اليسار يحول? الكتابة من العربي الى انجليزي?
alt+shift .........:اليمين يحول الكتابة من? انجليزي الى عربي?
f2 ..................:امر مفيد وسريع يمكنك من تغير اسم ملف? محدد
السبت، 29 يونيو 2013
اهد اء الي الاصحاب مكتبة اسلامية
اهد اء الي الاصحاب مكتبة اسلامية
بحث
العرض الموضوعي
أقسام المكتبة
متون الحديث
تفسير القرآن
شروح الحديث
السيرة النبوية
التاريخ والتراجم
علوم القرآن
علوم الحديث
فروع الفقه الحنفي
فروع الفقه المالكي
فروع الفقه الشافعي
فروع الفقه الحنبلي
الفقه المقارن
أصول الفقه
القواعد الفقهية
السياسة الشرعية
العقيدة
الآداب والرقائق
كتب اللغة العربية
الفتاوى
أحاديث الأحكام
فروع الفقه الظاهري
القضاء
الآداب الشرعية
لغة الفقه
آيات الأحكام
الخميس، 27 يونيو 2013
ترتيب التاريخ الاسلامي
ترتيب التاريخ الاسلامي
عهد النبي وعصر الخلفاء الراشدين،
(1) العصر الأموي: ويتضمن حكم معاوية ابن أبى سفيان ثم يزيد ابن معاوية ثم معاوية ابن يزيد (166_683 م)، 41 _ 64 هـ.
(2) العصر المروانى، ويبدأ بمروان ابن الحكم وينتهي بمروان ابن محمد (683_ 745 م)، 64 _127 هـ
(3) العصر العباسي الأول، ويبدأ من قيام الخلافة العباسية إلى سيطرة الترك على الحكم (750_ 842 م)، (132 _ 232 هـ)، ويمكن أن يسمى بالعصر الفارسي الأول.
(4) العصر العباسي الثاني، ويبدأ بخلافة المتوكل على الله العباسي وينتهي بظهور الدولة البويهية (847 _ 944 م)، (232 _ 334 هـ)، ويمكن أن يسمى بالعصر التركي الأول.
(5) العصر العباسي الثالث، ويبدأ باستقرار الدولة البويهية وينتهي بدخول السلاجقة إلى بغداد 946 _ 1055 م، (334 _ 447 هـ)، ويمكن أن يسمى بالعصر الفارسي الثاني.
(6) العصر العباسي الرابع، ويبدأ بدخول السلاجقة إلى بغداد وينتهي بدخول المغول إليها (1055 _ 1256 م)، (447 _ 656 هـ) ويمكن أن يسمى بالعصر التركي الثاني.
هذا بالإضافة إلى الخلافة الفاطمية، وهى من البربر والصقليين، والسلطنة العثمانية وهى من الترك.
كان أهم فرعين في قبيلة قريش، هم الأمويون بزعامة أبى سفيان ابن حرب والهاشميون بزعامة العباس عم النبي (صلعم)، وكان الفرع الأموي أكثر ثراء وأشد دهاء. وقد سكت هذا الفرع، وهو يتربص للحكم والسلطان، مدى وجود النبي (خاصة وأن أبا سفيان لم يسلم إلا عند فتح مكة سنة 8 هـ)، وخلال خلافة أبى أبكر وعمر ابن الخطاب، فلما وُلى عثمان ابن عفان الخلافة، طابت لهم الحال واستوى فيهم الأمر، فبدءوا يظهرون على الجميع ويسيئون استغلال السلطة والاستيلاء على أموال المسلمين، وقد استسلم عثمان لمروان ابن الحكم فكان أكبر مستشاريه، خاصة وقد زوجه عثمان ابنته وجعل له خمس غنائم أفريقية.
وبسبب جنوح عثمان ابن عفان إلى عشيرته من الأمويين (ولأسباب أخرى) فقد ثار عليه الثوار وقتلوه، وبويع لعلى ابن أبى طالب بالخلافة، ووقعت أحداث الفتنة الكبرى، إلى أن قُتل على ابن أبى طالب، فبدأت الكفة تميل تمام لصالح الأمويين، حتى بويع معاوية بالخلافة (41 هـ).
وفى عصر ما قبل الإسلام، المسمى بالعصر الجاهلي، كانت العصبية تضرب بين القبائل بسبب الأنساب، التي تعود إلى القبيلة والعشيرة والبطن فيها والفرع منها، وهكذا، وعمل الإسلام على إنشاء أمة (جماعة) من المؤمنين تربطهم ببعضهم البعض وشيجة الإيمان التي أذابت بحرارتها عرى القبليّة وقطعت حبالها، فلما بدأ العصر الأموي حدث انقلاب جذري في الإسلام، مفهوما ومضمونا، نظاما وتطبيقا، فقد كانت الخلافة من قبله مدنية تصدر عن المسلمين، ثم صارت من بعده مُلكا عضودا وقيصرية في الواقع والحقيقة، وكان الحكم شورى فأصبح غلبة وإرثا، وكان المال مال المسلمين فغدا مال الخليفة، يأخُذ منه ما يشاء ويعطى ما فضل عنه، فضلا منه على الناس.
ومع هذا الاستبداد مع المسلمين، فقد تعصب الأمويون للعرب واختصوا أنفسهم بالخير وظلت خشونة البادية ظاهرة على حكمهم غالبة في سياستهم، مما أثار عوامل الحسد في نفوس القبائل المسلمة التي كانت ذات شأن في الجاهلية وصدمها أن ذهب شأنها وضاع فضلها في هذا الجو القبلي البغيض، فانقسم المسلمون إلى جانب يضم المهاجرين من قريش، وقبائل كنانة وثقيف وهذيل، وأهل مكة والمدينة، وجانب يضم قبائل بكر ابن وائل وعبد القيس من ربيعة، وكندة والأزد من اليمن، وتميم وقيس من مصر. فكان القرشيون، وبالأحرى، الأمويون يترفعون ويتسيدون على غيرهم، ومعهم من ظاهرهم، بينما يبغض الجانب الآخر من القرشيين ومظاهريهم. ومع الوقت تحول الصراع إلى نزاع وحروب بين اليمنية القحطانية (العرب العاربة)، وبين العدنانيين النزاريين (العرب المستعربة)، وظل هذا الصراع يحكم التاريخ الإسلامي، مدى طويلا، في الشام والعراق ومصر وخراسان وأفريقيا والأندلس.
وإذ كان معاوية، مؤسس الخلافة الأموية خبيثا داهية، فقد عمد لتثبيت ملكه، وتحويله إلى الإرث، إلى أن يصانع الكثيرين ويتألفهم بالمال، حتى آل الملك إلى المروانية، مروان ابن محمد ثم عبد الملك ابن مروان ثم الوليد فسليمان، فإذا النزعة القبلية والنعرة العصبية تعلو بشدة وتحكم بقوة وتعمل بسفور، مما دعا الجاحظ _ فيما بعد أن يصف هذه الخلافة بأنها عربية أعرابية،والأعراب _ كما جاء في القرآن ((أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله))، سورة التوبة 9 : 97 ذلك أن الأعراب أجلاف، يعرفون الإسلام على حرف، ويطبقون تعاليمه بسطحية وتأويل يناسب أغراضهم ولا يلتزم القصد الحقيقي أو الجوهر الصحيح. في هذا المناخ القبلي الوخيم رأت العرب أن الإسلام دين خاص بها هي، تستند في ذلك إلى آيات من القرآن ((إنا أنزلناه قرآنا عربيا)) سورة يوسف 12: 2، ((وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم)) سورة إبراهيم 14: 4، ((نزله الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين)).. ((ولو أنزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به بمؤمنين)) سورة الشعراء 26: 196 _ 198. ونتيجة لذلك فإنهم كانوا يفرضون الجزية على أي بلد (مدينة أو قرية) يغزونها دون أن يعرضوا الإسلام على أهله، ما داموا من غير العرب، ويكفى للتدليل على ذلك تقديم مثلين، يغنيان عن كثير: _
(أ) فيما يسمى بوقعة الولجة ببلاد فارس فقد قام خالد ابن الوليد - في الناس الذين جاءوا معه - خطيبا يرغبهم في بلاد العجم ويزهدهم في بلاد العرب، وقال : ألا ترون إلى الطعام..وباالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلا المعاش، لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولى الجوع والإقلال.. وسار خالد في الفلاحين بسيرته فلم يقتلهم (حتى يظلوا في فلاحة الأرض) وسبى ذرارى (أولاد) المقاتلين ومن أعانهم، ودعا أهل الأرض إلى الجزية وأن يصيروا من أهل الذمة (رغم أنهم ليسوا من أهل الكتاب)، (تاريخ الطبري) _ الجزء الثالث _ طبعة دار المعارف _ ص 354).
(ب) كتب معاوية إلى عمر ابن الخطاب يرغّبه في ركوب المسلمين البحر لغزو قبرص، وهو يقول في ذلك (إن بالشام قرية يسمع أهلها نباح كلاب الروم وصياح ديوكهم) يقصد بذلك قبرص (مع انها تبعد عن الشام كثيرا فلا يمكن أن يسمع من بالشام نباح كلابها وصياح ديوكها). ورفض عمر أن يركب المسلمون البحر، غير أن معاوية غزا قبرص في عهد عثمان، ثم صالح أهلها على جزية قدرها سبعة آلاف دينار يؤدونها إلى المسلمين كل سنة، دون أن يعرض عليهم الإسلام (المرجع السابق _ الجزء الرابع _ ص 262).
ومع ذلك فإن أعدادا غفيرة من غير العرب شرعت تدخل في الإسلام لأسباب مختلفة، وأنفت العرب أن يتساوى هؤلاء بهم فسموهم الموالي، واشترطوا على كل منهم أن يتخذ له من العرب وليا له، يكون من حقه التصرف في كل شئونه، وكانت الجزية ترفع عمن يسلم من هؤلاء الموالى، حتى هال بعض الحكام دخول الناس في الإسلام فرارا من الجزية (التي كانت مع قلة مبلغها تفيد معنى الذل والمهانة عند من يُجبرَون على دفعها)، وكتب عمال الحجاج ابن يوسف الثقفي أشهر ولاة عبد الملك ابن مروان، والمروانية عموما يقولون له (إن الخراج قد انكسر، وأن أهل الذمة قد أسلموا، ولحقوا بالأمصار) فأمر الحجاج بأن تؤخذ منهم الجزية مع إسلامهم (ابن الأثير، جزء 4، ص 179).
وعندما وُلى عمر ابن عبد العزيز أمر الخلافة (717 _ 719 م، 99 _ 101 هـ) أسقط الجزية عن المسلمين من غير العرب، وقال في ذلك (إن محمدا قد أرسل هاديا ولم يرسل جابيا)، غير أن العرب لم تقبل صلح عمر ابن عبد العزيز (وهو حفيد عمر ابن الخطاب) ولم ترتض فهمه للإسلام على أنه عقيدة وشريعة وليس جزية واستعبادا، ومن ثم فقد دسوا السم للخليفة عمر ابن عبد العزيز، فمات ولم يحكم إلا عاما واحدا وتسعة أشهر، وبعد وفاة عمر أُعيد فرض الجزية على المسلمين من غير العرب.
مفاد ذلك أنه وإن كانت الفترة الأموية _ بالنهج الذي اتبعناه _ فيها تعصب للعرب عامة، وللعدنانيين خاصة، ولقريش بصفة أخص، وللأمويين بما هو أخص الأخص، فإن الفترة المروانية أضافت إلى عصبية المروانيين ونعرتهم الاستعلائية اضطهادا لغير العرب، حتى وإن أسلموا، ففرضت عليهم الجزية، بما في ذلك من معاني التبعية والعبودية والإذلال، حتى من مسلم لمسلم.
أدت العصبية العربية إلى عصبية الموالى، والفرس خاصة، وغلبت القوميات (وهى العنصرية بالمفهوم المعاصر) روح الدين السمحة الإنسانية، واستغل الهاشميون، من عباسيين وعلويين، غضب الفرس من العرب ورغبتهم في خلع نيرهم، فاستثاروهم حتى استطاعوا بقيادة أبى مسلم الخراساني (الفارسي)، القضاء على الحكم المروانى وإحلال الحكم العباسي بدلا منه، وكان هذا الحكم مختلفا عن الحكم الأموي والحكم المروانى، اختلافا بينا.
فينما كانت الخلافة الأموية، بعصريها،، عربية، أعرابية (بدوية) فقد صارت الخلافة العباسية فارسية أممية، وفى حين كانت عاصمة الخلافة الأموية المروانية في دمشق على حدود بادية العرب، وكان الخلفاء عرب الآباء والأمهات، وكان القادة والولاة والجنود والقضاة والكتاب ورجال الحكم عربا، فإن العباسيين اتخذوا الوزراء والقواد والولاة من الفرس غالبا واتخذوا بغداد عاصمة لهم، وهى على حدود بلاد فارس، وفتحت البلاد أبوابها للناس جميعا فتقاطر إليها، وأقام فيها، جمع كثير من مختلف الجنسيات والشرائع، فصارت بغداد بهذه الروح، وذلك العمران بؤرة العلم ومجمع العلماء ومركز التسامح، وانتقلت هذه الحال إلى كثير من الحواضر الإسلامية كالفسطاط ودمشق وقرطبة، والقيروان وغيرها، فأدت إلى ظهور واستقرار الحضارة الإسلامية.
كان من نتائج هذا الانقلاب أن الموالى، أي المسلمين غير العرب صاروا محور الحكم وأساس النهضة، فبعد أن كان الأمويون يزرون عليهم، قربهم العباسيون، وفيهم الخراسانيون الذين نصروهم في تقويض الحكم المروانى وتأسيس خلافتهم، وقدموا سائر الموالى واستخدموهم في أمور الحكم، وكان من أشهر الحكام الفرس آل برمك وآل الفضل، وبادل الموالى هذا التسامح معهم بتسامح آخر من جانبهم، ذلك أنه مع بقاء الفرس عامة على لسانهم الفارسي حتى اليوم، فإن من عاش منهم في بغداد وفى كنف العباسيين، وفى ظلال الحكم غير لسانه وبدل إسمه، فصارت لغتهم هي العربية وصارت أسماؤهم عربية كذلك، حتى إنه ليصعب على غير الدارس أن يميز الفارسي من العربي، حين يسمع عنه أو يقرأ له، وخاصة في وقتنا الحالي.
وكان من دواعي ابتداء النهضة، وإنشاء الحضارة، نقل العلوم والفنون والآداب اليونانية والفارسية والهندية، والكلدانية والنبطية والبابلية والمصرية وغيرها إلى العربية، وساهم الجميع في وضع أسس الحضارة ورفع ألوية التمدن.
فمن الموالى (الفرس) في الشعر، بشار ابن برد والحسن ابن هاني (أبو نُوَاس)، وإسماعيل ابن القاسم ابن سويد (أبو العتاهية) والحسين ابن الضحاك. ومنهم في علم النحو سيبويه (أبو بشر عمرو ابن عثمان) والكسائى (على ابن حمزة) والفرَاء (أبو زكريا يحيى ابن زياد الديلمى) وابن السكيت (أبو يوسف يعقوب ابن إسحاق).
وفى الآداب عبدالله ابن المقفع (مترجم كتاب كليلة ودمنة) وسهل ابن هارون (الذي كان الجاحظ يأتم به).
وفى الفقه أبو حنيفة (النعمان ابن ثابت).
وفى الحديث ابن جريح وسفيان ابن عيينه، والواقدى وابن نافع الصنعانى، وفى التاريخ الواقدى (أبو عبدالله محمد ابن عمر ابن واقد) ومحمد ابن إسحاق.
أدت غلبة الفرس في العصر العباسي الأول، وخاصة في شئون الحكم والسياسة، إلى أن يُطبقوا على كل شيء ويحكموا قبضتهم على الناس والمال، حتى قيل إن هارون الرشيد كان يطلب المال (أو الشىء) فلا يحصل عليه بسهولة نتيجة شدة قبضة البرامكة (وزرائه) على أزمّة الأمور وخزائن المال، مما كان أحد الأسباب التي أدت به إلى نكبتهم، وتطرقت هذه النكبة إلى تحوط الخلفاء من الفرس وتخوف الفرس من الخلفاء. وفى عهد المعتصم الابن الثالث لهارون الرشيد والذي ولى الخلافة بعد الأمين والمأمون بدأ الاستغناء عن الفرس والاستكثار من الترك، الذين سرعان ما استبدوا بالحكم في عهد المتوكل، وانتهى الأمر بأن قتلوه.
بهذا بدأ العنصر التركي يظهر على مسرح السياسة في العالم الإسلامي، وظل عاملا فعالا شديد الفعالية، منذ هذا الوقت، وحتى مارس سنة 1924، الأمر الذي يقتضى بيانا علميا واضحا وافيا عن هؤلاء الترك.
الترك اصطلاح يطلق في معناه الواسع على الشعوب التي تتكلم اللغة التركية في تركيا وفى الجمهوريات التركستانية التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي، وفى تركستان الصينية، وشرق إيران.
وثم أكثر من نظرية عن المكان الذي بدأت فيه هذه الشعوب، فنظرية ترى أنهم بدؤوا من شمال كوريا وشمال الصين ثم اندفعوا إلى الغرب مع بقاء عناصر منهم حول المنطقة التي بدؤوا فيها، ونظرية أخرى ترى أنهم عاشوا أصلا في جنوب سيبريا وفى تركستان (منطقة وسط آسيا) ثم توسعوا في الانتشار جنوبا وغربا.
وهذه الشعوب (أو القبائل) هي التتار : وهى من أرومة (أصول مغولية)، ونظرا لأن لفظ التتار اكتسب في التراث البشرى معنى سيئا، يفيد القضاء على الزرع والضرع، مثلما يفعل الجراد، فقد حرص التتار على أن يُسموا أنفسهم الترك، نسبة إلى اللغة التي يتكلمونها، وحتى يخفوا حقيقة أمرهم كتتار، ومن ثم فقد قيل عنهم إنهم ترك، ومن هؤلاء التتار قبائل غزت آسيا الصغرى، وسموا أنفسهم العثمانيين، نسبة إلى قائدهم آنذاك عثمان ابن أرطغرل ابن سليمان شاه (1281 _ 1325 م). وفيما عدا تركيا، فإن التتار يتركزون في العصر الحالي، فيما يسمى تركستان الغربية، وتركستان الشرقية.
وتركستان الغربية تضم الجمهوريات التى استقلت حديثا عن الاتحاد السوفيتى، وصارت تكون ما يعرف بجمهوريات آسيا الوسطى وهى : تركمانستان، وأوزبكستان، وتادجكستان، وقرغيرستان، وقازاقستان.
أما تركستان الشرقية أو الصينية فهى مقاطعة سكيانج بالصين.
ومنطقة تركستان الغربية كانت على مر العصور، ومازلت معبرا يربط الشرق بالغرب، وطريقا سلكه كثير من الغزاة والشعوب والقبائل المهاجرة، وقد ظهر فيها البترول، مما يؤذن بأنها سوف تكون منطقة مهمة للغاية، وقد تلعب دورا ملحوظا في المستقبل العالمى.
التتار من ثم اسم عام يطلق على شعوب اكتسحت أجزاء من آسيا وأوربا بزعامة المغول (وهم أصول التتار) في القرن الثالث عشر، وقد استولت قبائل منهم على الروسيا، وظلت منطقة سيبيريا تعرف ببلاد التتار (ترتارى)، كما زحفوا على منطقة القرم، وهى شبة جزيرة على الساحل الشمالى للبحر الأسود وظلت هذه المنطقة تعرف ببلاد التتار الصغرى.
والمغول شعب أسيوى منتشر حالا (حاليا) في منغوليا وشرق منشوريا وغربها، وفى جنوب ووسط سيبيريا.
وقد ظهر المغول، على المسرح العالمى، وهم يقودون جحافل يشكل التتار القوة الأساسية منها، ويتزعمهم جنكيزخان (1167_ 1227) وخلفاؤه ومنهم باطوخان وقبلاى خان، ففتح منغوليا وأسس بها عاصمة له في قرقورم، ثم هاجم سنة 1213 إمبراطورية الشان شمال الصين، وفى سنة 1215 استولى على أغلب أراضى الصين بما فى ذلك العاصمة يتشنج (بكين الحالية)، وفتح خلال سنى 1218 _ 1224 تركستان الشرقية وبلاد ما وراء النهر وأفغانستان، وأغار على فارس ومنطقة تركستان الغربية، ثم ظهر منهم تيمورلنك (حوالى 1336 _ 1405) وادعى أنه من سلالة جنيكيزخان، فاستولى على منطقة تركستان الغربية وسيطر عليها تماما سنة 1369، واتخذ من سمرقند عاصمة له، ومنها غزا فارس وجنوب الروسيا وجنوب الهند واستولى على مدينة دلهى، وفى سنة 1400 اكتسح بلاد الكرج ثم اكتسح شمال سوريا، وإستولى على مدينة حلب، فانتهبها وخربها هو وجحافله، ثم سقطت في يده دمشق، فنقل عنوة طائفة من أفضل علمائها، وأمهر صناعها وفنانيها إلى سمرقند (كما فعل خلفه وصنوه سليم الأول، فيما بعد، حين استولى على مصر سنة 1517،وزحف بعد ذلك على بغداد، فدخلها للمرة الثانية (وكان التتار من أسلافه قد دخلوها ودمروها من قبل سنة 1242..ثم والى الزحف إلى آسيا الصغرى، وهزم العثمانيين أولاد عمومته فى موقعة أنقرة سنة 1402 وأسر سلطانهم بايزيد.
هؤلاء هم الترك الذين هم فى الحقيقة تتار من أرومة (أصول) مغولية، قادهم المغول في حروب ضارية وحملات قاضية على الشعوب وعلى الحضارة،فأصبح لإسمهم، تتار أو مغول، وقع بشع في آذان الناس وأسماع التاريخ، مما دفعهم، ودفع المؤرخين الموالين لهم، إلى أن يسبغوا عليهم وصف الترك، وهو اسم اللغة التي يتكلمون بها، وليس إسما لشعوبهم وقبائلهم، حتى يتخفوا وراء هذا الاسم فلا يعرف الناس حقيقتهم ولا يذكر التاريخ أصولهم. كيف إذن اتصل هؤلاء التتار بالإسلام،فصار أغلبهم مسلمين (كما أن قبائل منهم اعتنقت اليهودية، هم قبائل الخزر، وصاروا هم اليهود الأشكيناز الذي أقام غالبهم في شرق أوربا)؟.
فى عهد عمر ابن الخطاب، وبعد فتح مدن من فارس، اتجه الغزو إلى طبرستان فكتب قائد جيوش المسلمين إلى حاكمها كتابا جاء فيه، (إنك آمن.. وتتقى من ولى فرج أرضك بخمسمائة ألف درهم من دراهم أرضك)، أي إن دفعت من غلة أرضك هذا المبلغ ؛ وبعد طبرستان سارت جيوش الغزو إلى أذربيجان ففتحوها وفرضوا عليها الجزية، ثم تلى ذلك غزو أرمينيا.
بذلك شرع المسلمون يدخلون مناطق التتار ويدخلونهم إلى عالم الإسلام.
الأربعاء، 26 يونيو 2013
التتار ومصر
التتار ومصر
"هولاكو" أرسل رسولاً من رجاله وبرفقته أربعون رجلاً من الأتباع إلى قطز يحملون إليه رسالة منه جاء فيها:
"من ملك الملوك شرقًا وغربًا القائدالأعظم: باسمك اللهم، باسط الأرض، ورافع السماء، يعلم الملك المظفر قطزالذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمونبأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز وسائرأمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، إنا نحنجند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكمبجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم.قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى،ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض منالفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرضتؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولامن مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبناكالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لاتنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفُّون عند كلام،وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلةوالهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحقوبما كنتم تفسقون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فمن طلب حربناندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لناوعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّرمن أنذر. وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقدسَلَّطَنا عليكم من له الأمور المقدّرة، والأحكام المدبرة، فكبيركم عندناقليل، وعزيزكم عندنا ذليل، فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أنتضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزًا، ولاكافيًا ولا حرزًا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقدأنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم،والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملكالأعلى".وكان ذلك في سنة ثمان وخمسين وستمائة هجرية "أوائل سنة 1260م".
فلما سمع قطز ما في هذاالكتاب جمع الأمراء، واتفقوا على قتل رُسُل هولاكو، فقبض عليهم، واعتقلوا،وأمر بإعدامهم فأعدموا توسيطًا-أي:ضربوا بالسيف في وسطهم ليشطروا شطرين -،كل مجموعة منهم أمام باب من أبواب القاهرة، وعُلقت رؤوسهم على باب"زويلة". لقد عقد قطز العزم على حرب التتار، وكان قراره نهائيًا لا رجعةعنه؛ إذ هو المسوغ الوحيد لاستيلائه على السلطة، وتواترت المعلوماتالموثوق بها عن زحف التتار باتجاه مصر، كما علم المصريون باستيلاء التتارعلى سورية وفلسطين، كما وصل إلى القاهرة كمال الدين عمر بن العديم أحدالعلماء الأعلام رسولاً من الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشاميطلب من قطز النجدة على قتال التتار.
وجمع قطز القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه من أمرالتتار، وأن يؤخذ من الناس ما يستعان به على جهادهم، وحضر أصحاب الرأي فيدار السلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام،
والقاضي بدر الدين السنجاري-قاضي الديار المصرية-، وأفاضوا الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابنعبد السلام، وخلاصة ما قال: "إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب علىالعالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم،بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائص-أي:حزام الرجلوحزام الدابة- المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبهوسلاحه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة، مع بقايا فيأيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا يجوز".
وانفض المجلس على ذلك، ولميتكلم السلطان، وهو الملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك، لعدم معرفتهبالأمور ولصغر سنه، فلهج الناس بخلع السلطان وتولية قطز حتى يقوم بهذاالأمر المهم. فقد علم قطز أنه لا بد من خروجه من مصر على رأس قواتهالعسكرية لقتال التتار، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما يريد، لأن الآراءمغلولة لصغر سن السلطان، ولأن الكلمة مختلفة، فجمع قطز الأمراء والعلماءمن أصحاب الرأي، وعرفهم أن الملك المنصور هذا صبي لا يحسن التدبير في مثلهذا الوقت الصعب، ولا بد من أن يقوم بأمر الملك رجل شهم يطيعه كل أحد،وينتصب للجهاد في التتار، فأجابه الجميع: ليس لها غيرك.
لقد كان الجواب على رسالةهولاكو هو: القتال، ولا شيء غير القتال. وكان هذا القرار متفقًا عليه منالجميع قبل وصول وفد هولاكو، وقبل وصول رسالته إلى القاهرة.
ولم يكن إعدام الوفد إلا حافزًا جديدًا لقطز وقواته على القتال، دون أن يتركوا الباب مفتوحًا لحل آخر غير القتال.
وهذا موقف لقطز في مثل تلكالظروف التي كانت تحيط به، موقف يُحمد عليه، لأنه انتزع آخر أمل من نفوسالمترددين والانهزاميين في احتمال رضوخ قطز إلى مطالب التتار، فقال قطزقولته الحاسمة: "إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعًا إلى القتال، فإذا ظفرنافهو المراد، وإلا فلن نكون مسلمين أمام الخلق".
الحشد
خرج قطز يوم الإثنين الخامسعشر من شعبان سنة 658 هـ - 1260م بجميع عسكر مصر ومن انضم إليهم من عساكرالشام ومن العرب والتركمان وغيرهم من قلعة الجبل في القاهرة، يريد معسكرالصالحية، معسكر مصر الكبير في شرق الدلتا.
وقبل ذلك، وفي اليوم نفسه، أحضر قطز رسل "هولاكو" وأعدمهم، ليضع قواته المسلحة أمام الأمر الواقع: لا مفر من القتال.
ونودي في القاهرة والفُسطاطوسائر أقاليم مصر بالخروج إلى الجهاد، وتقدم قطز إلى جميع الولاة يحثالأجناد للخروج إلى القتال، وسار حتى وصل إلى الصالحية، وتكامل حشد قواته،فجمع الأمراء وكلمهم بالرحيل، فأبوا كلهم عليه وامتنعوا عن الرحيل، فقاللهم: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاةكارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلىبيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين".
وتكلم الأمراء الذين اختارهموحلّفهم مؤيدين له في المسير، فلم يسع البقية غير الموافقة. لقد جمع قطزقادته قبل المسير، وشرح لهم خطورة الموقف، وذكرهم بما وقع من التتار فيالبلاد التي غزوها من شنيع السفك والتخريب، وما ينتظر مصر وأهلها من مصيرمروع إذا انتصر التتار، وحثهم وهو يبكي على بذل أرواحهم في سبيل إنقاذالإسلام والمسلمين من هذا الخطر الداهم، فضج القادة بالبكاء، ووعدوا ألايدخروا وسعًا في سبيل مقاتلة التتار، وإنقاذ مصر والإسلام من شرهم.
ولكن لماذا خاف قادة قطز التتار؟
كان هولاكو في خلق لا يحصيهمإلا الله، ولم يكونوا من حين قدومهم على بلاد المسلمين سنة 616 هـ - 1219ميلقاهم عسكر إلا فلّوه، وكانوا يقتلون الرجال ويسبون النساء ويستاقونالأسرى وينهبون الأموال، لذلك آثر قادة قطز بعد إكمال حشد قواتهم حمايةمصر لا غير، لكثرة عدد التتار واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، لأنالتتار لم يقصدوا إقليمًا إلا فتحوه، ولا عسكرًا إلا هزموه، ولم يبق خارجحكمهم إلا مصر والحجاز واليمن، وقد هرب جماعة من المغاربة الذين كانوابمصر إلى المغرب، لقد كانت المعنويات منهارة،
فلا عجب أن يبذل قطز كل جهدهلرفع معنويات قادته ورجاله خاصة، والشعب المصري عامة، وأن يستحث القادرينعلى حمل السلاح للجهاد بأرواحهم، والقادرين على تقديم الأموال للجهادبأموالهم، وأن يحشد كل طاقاته المادية والمعنوية للحرب، فلا يعلو صوت علىصوت المعركة، ولا يُقبل عذر من أحد قادر على الجهاد بماله وروحه، وقد قدمقطز مثالاً شخصيًا رائعًا في الجهاد بماله وروحه في سبيل الله.
كما أن قطز صمّم على لقاءالتتار خارج مصر، وألا ينتظرهم في مصر للدفاع عنها على الأرض المصرية، حتىيجنب مصر ويلات الحرب أولاً، ويرفع معنويات رجاله ومعنويات المصريينثانيًا، ويوحي للتتار بأنه لا يخافهم فيؤثر ذلك على معنوياتهم ثالثًا،ولأن المدافع لا ينتصر مطلقًا إلا في نطاق ضيق محدود بعكس المهاجم الذييؤدي انتصاره إلى كارثة تحيق بعدوه رابعًا، ولأن الهجوم أنجح وسائل الدفاعخامسًا وأخيرًا.
إن تصميم قطز على قبول المعركة خارج مصر، كان قرارًا عسكريًا فذًا.
المعركة
وخرج قطز من مصر في الجحافلالشامية والمصرية، في شهر رمضان من سنة 658 هـ- 1260م وغادر معسكرالصالحية بجيشه، ووصل مدينه "غزة" والقلوب وجلة، وكان في "غزة" جمع التتاربقيادة "بيدر"، وكان بيدر هذا قد أخبر قائده "كتبغا نوين" الذي كان في سهل"البقاع" بالقرب من مدينة "بعلبك" بزحف جيش قطز، فرد عليه: "قف مكانكوانتظر".
ولكن قطز داهم "بيدر" قبل وصول "كتبغا نوين" فاستعاد غزة من التتار، وأقام بها يومًا واحدًا، ثم غادرها شمالاً باتجاه التتار.
"من ملك الملوك شرقًا وغربًا القائدالأعظم: باسمك اللهم، باسط الأرض، ورافع السماء، يعلم الملك المظفر قطزالذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمونبأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز وسائرأمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، إنا نحنجند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكمبجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم.قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى،ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض منالفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرضتؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولامن مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبناكالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لاتنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفُّون عند كلام،وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلةوالهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحقوبما كنتم تفسقون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فمن طلب حربناندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لناوعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّرمن أنذر. وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقدسَلَّطَنا عليكم من له الأمور المقدّرة، والأحكام المدبرة، فكبيركم عندناقليل، وعزيزكم عندنا ذليل، فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أنتضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزًا، ولاكافيًا ولا حرزًا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقدأنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم،والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملكالأعلى".وكان ذلك في سنة ثمان وخمسين وستمائة هجرية "أوائل سنة 1260م".
فلما سمع قطز ما في هذاالكتاب جمع الأمراء، واتفقوا على قتل رُسُل هولاكو، فقبض عليهم، واعتقلوا،وأمر بإعدامهم فأعدموا توسيطًا-أي:ضربوا بالسيف في وسطهم ليشطروا شطرين -،كل مجموعة منهم أمام باب من أبواب القاهرة، وعُلقت رؤوسهم على باب"زويلة". لقد عقد قطز العزم على حرب التتار، وكان قراره نهائيًا لا رجعةعنه؛ إذ هو المسوغ الوحيد لاستيلائه على السلطة، وتواترت المعلوماتالموثوق بها عن زحف التتار باتجاه مصر، كما علم المصريون باستيلاء التتارعلى سورية وفلسطين، كما وصل إلى القاهرة كمال الدين عمر بن العديم أحدالعلماء الأعلام رسولاً من الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشاميطلب من قطز النجدة على قتال التتار.
وجمع قطز القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه من أمرالتتار، وأن يؤخذ من الناس ما يستعان به على جهادهم، وحضر أصحاب الرأي فيدار السلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام،
والقاضي بدر الدين السنجاري-قاضي الديار المصرية-، وأفاضوا الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابنعبد السلام، وخلاصة ما قال: "إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب علىالعالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم،بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائص-أي:حزام الرجلوحزام الدابة- المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبهوسلاحه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة، مع بقايا فيأيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا يجوز".
وانفض المجلس على ذلك، ولميتكلم السلطان، وهو الملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك، لعدم معرفتهبالأمور ولصغر سنه، فلهج الناس بخلع السلطان وتولية قطز حتى يقوم بهذاالأمر المهم. فقد علم قطز أنه لا بد من خروجه من مصر على رأس قواتهالعسكرية لقتال التتار، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما يريد، لأن الآراءمغلولة لصغر سن السلطان، ولأن الكلمة مختلفة، فجمع قطز الأمراء والعلماءمن أصحاب الرأي، وعرفهم أن الملك المنصور هذا صبي لا يحسن التدبير في مثلهذا الوقت الصعب، ولا بد من أن يقوم بأمر الملك رجل شهم يطيعه كل أحد،وينتصب للجهاد في التتار، فأجابه الجميع: ليس لها غيرك.
لقد كان الجواب على رسالةهولاكو هو: القتال، ولا شيء غير القتال. وكان هذا القرار متفقًا عليه منالجميع قبل وصول وفد هولاكو، وقبل وصول رسالته إلى القاهرة.
ولم يكن إعدام الوفد إلا حافزًا جديدًا لقطز وقواته على القتال، دون أن يتركوا الباب مفتوحًا لحل آخر غير القتال.
وهذا موقف لقطز في مثل تلكالظروف التي كانت تحيط به، موقف يُحمد عليه، لأنه انتزع آخر أمل من نفوسالمترددين والانهزاميين في احتمال رضوخ قطز إلى مطالب التتار، فقال قطزقولته الحاسمة: "إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعًا إلى القتال، فإذا ظفرنافهو المراد، وإلا فلن نكون مسلمين أمام الخلق".
الحشد
خرج قطز يوم الإثنين الخامسعشر من شعبان سنة 658 هـ - 1260م بجميع عسكر مصر ومن انضم إليهم من عساكرالشام ومن العرب والتركمان وغيرهم من قلعة الجبل في القاهرة، يريد معسكرالصالحية، معسكر مصر الكبير في شرق الدلتا.
وقبل ذلك، وفي اليوم نفسه، أحضر قطز رسل "هولاكو" وأعدمهم، ليضع قواته المسلحة أمام الأمر الواقع: لا مفر من القتال.
ونودي في القاهرة والفُسطاطوسائر أقاليم مصر بالخروج إلى الجهاد، وتقدم قطز إلى جميع الولاة يحثالأجناد للخروج إلى القتال، وسار حتى وصل إلى الصالحية، وتكامل حشد قواته،فجمع الأمراء وكلمهم بالرحيل، فأبوا كلهم عليه وامتنعوا عن الرحيل، فقاللهم: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاةكارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلىبيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين".
وتكلم الأمراء الذين اختارهموحلّفهم مؤيدين له في المسير، فلم يسع البقية غير الموافقة. لقد جمع قطزقادته قبل المسير، وشرح لهم خطورة الموقف، وذكرهم بما وقع من التتار فيالبلاد التي غزوها من شنيع السفك والتخريب، وما ينتظر مصر وأهلها من مصيرمروع إذا انتصر التتار، وحثهم وهو يبكي على بذل أرواحهم في سبيل إنقاذالإسلام والمسلمين من هذا الخطر الداهم، فضج القادة بالبكاء، ووعدوا ألايدخروا وسعًا في سبيل مقاتلة التتار، وإنقاذ مصر والإسلام من شرهم.
ولكن لماذا خاف قادة قطز التتار؟
كان هولاكو في خلق لا يحصيهمإلا الله، ولم يكونوا من حين قدومهم على بلاد المسلمين سنة 616 هـ - 1219ميلقاهم عسكر إلا فلّوه، وكانوا يقتلون الرجال ويسبون النساء ويستاقونالأسرى وينهبون الأموال، لذلك آثر قادة قطز بعد إكمال حشد قواتهم حمايةمصر لا غير، لكثرة عدد التتار واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، لأنالتتار لم يقصدوا إقليمًا إلا فتحوه، ولا عسكرًا إلا هزموه، ولم يبق خارجحكمهم إلا مصر والحجاز واليمن، وقد هرب جماعة من المغاربة الذين كانوابمصر إلى المغرب، لقد كانت المعنويات منهارة،
فلا عجب أن يبذل قطز كل جهدهلرفع معنويات قادته ورجاله خاصة، والشعب المصري عامة، وأن يستحث القادرينعلى حمل السلاح للجهاد بأرواحهم، والقادرين على تقديم الأموال للجهادبأموالهم، وأن يحشد كل طاقاته المادية والمعنوية للحرب، فلا يعلو صوت علىصوت المعركة، ولا يُقبل عذر من أحد قادر على الجهاد بماله وروحه، وقد قدمقطز مثالاً شخصيًا رائعًا في الجهاد بماله وروحه في سبيل الله.
كما أن قطز صمّم على لقاءالتتار خارج مصر، وألا ينتظرهم في مصر للدفاع عنها على الأرض المصرية، حتىيجنب مصر ويلات الحرب أولاً، ويرفع معنويات رجاله ومعنويات المصريينثانيًا، ويوحي للتتار بأنه لا يخافهم فيؤثر ذلك على معنوياتهم ثالثًا،ولأن المدافع لا ينتصر مطلقًا إلا في نطاق ضيق محدود بعكس المهاجم الذييؤدي انتصاره إلى كارثة تحيق بعدوه رابعًا، ولأن الهجوم أنجح وسائل الدفاعخامسًا وأخيرًا.
إن تصميم قطز على قبول المعركة خارج مصر، كان قرارًا عسكريًا فذًا.
المعركة
وخرج قطز من مصر في الجحافلالشامية والمصرية، في شهر رمضان من سنة 658 هـ- 1260م وغادر معسكرالصالحية بجيشه، ووصل مدينه "غزة" والقلوب وجلة، وكان في "غزة" جمع التتاربقيادة "بيدر"، وكان بيدر هذا قد أخبر قائده "كتبغا نوين" الذي كان في سهل"البقاع" بالقرب من مدينة "بعلبك" بزحف جيش قطز، فرد عليه: "قف مكانكوانتظر".
ولكن قطز داهم "بيدر" قبل وصول "كتبغا نوين" فاستعاد غزة من التتار، وأقام بها يومًا واحدًا، ثم غادرها شمالاً باتجاه التتار.
[/size]
وكان"كتبغا" مقدم التتار على جيش "هولاكو" لما بلغه خروج قطز، وكان في سهلالبقاع قد عقد مجلسًا استشاريًا، واستشار ذوي الرأي في ذلك، فمنهم من أشاربعدم لقاء جيش قطز في معركة، والانتظار حتى يجيئه مدد من "هولاكو" ليقوىعلى مصاولة جيش المسلمين، ومعنى هذا مشاغلة جيش قطز بالقوات المتيسرة لديهريثما ترده النجدات التي تضمن له النصر، ومنهم من أشار بغير ذلك -قبلالمعركة- اعتمادًا على قوات التتار التي لا تقهر، وهكذا تفرقت الآراء،وكان رأي "كتبغا نوين" قبول المعركة ومواجهة جيش قطز، فتوجه من فورهجنوبًا باتجاه القوات المصرية.
وكان أول الوهن اختلاف الآراء وظهور رأي يحبذ الانسحاب، ورأي يحبذ عدم الانسحاب وقتال قطز.
وكان أول الوهن اختلاف الآراء وظهور رأي يحبذ الانسحاب، ورأي يحبذ عدم الانسحاب وقتال قطز.
[size=16]وبعث قطز طلائع قواته بقيادةالأمير ركن الدين بيبرس البندقداري لمناوشة التتار واختبار قواتهم،واستحصال المعلومات المفصلة عن تنظيمهم وتسليحهم وقيادتهم، فالتقى بيبرسبطلائع التتار في مكان يقع بين "بيسان" و"نابلس" يدعي: "عين جالوت" في"الغور" غور الأردن، وشاغل التتار حتى وافاه قطز على رأس القوات الأصليةمن جيشه، وفي يوم الجمعة 25 رمضان سنة 658هـ- 6 سبتمبر1260م نشبت بينالجيشين المتقابلين معركة حاسمة، وكان التتار يحتلون مرتفعات "عين جالوت"،فانقضوا على جيش قطز تطبيقًا لحرب الصاعقة التي دأب التتار على ممارستهافي حروبهم، تلك الحرب التي تعتمد سرعة الحركة بالفرسان، وكان القتالشديدًا لم يُر مثله، حتى قتل من الجانبين جماعة كثيرة.
وتغلغل التتار عميقًا،واخترقوا ميسرة قطز، فانكسرت تلك الميسرة كسرة شنيعة، ولكن قطز حمل بنفسهفي طائفة من جنده، وأسرع لنجدة الميسرة، حتى استعادت مواقعها.
واستأنف قطز الهجوم المضاد بقوات "القلب" التي كانت بقيادته المباشرة،وكان يتقدم جنوده وهو يصيح: "واإسلاماه.. واإسلاماه.." واقتحم قطز القتال،وباشر بنفسه، وأبلى في ذلك اليوم أعظم البلاء، وكانت قوات "القلب" مؤلفةمن المتطوعين المجاهدين من الذين خرجوا يطلبون الشهادة، ويدافعون عنالإسلام بإيمان، فكان قطز يشجع أصحابه، ويحسّن لهم الموت، ويضرب لهم المثلبما يفعله من إقدام ويبديه من استبسال.
وكان قطز قد أخفى معظم قواتهالنظامية المؤلفة من المماليك في شعب التلال، لتكون كمائن، وبعد أن كربالمجاهدين كرة بعد كرة حتى زعزع جناح التتار، برز المماليك من كمائنهموأداموا زخم الهجوم بشدة وعنف.
وكان قطز أمام جيشه يصرخ:"واإسلاماه.. واإسلاماه.. يا الله انصر عبدك قطز على التتار"، وكان جيشهيتبعه مقتديًا بإقدامه وبسالته، فقتل فرس قطز من تحته، وكاد يعرض للقتللولا أن أسعفه أحد فرسانه، فنزل له عن فرسه.
وسارع قطز إلى قيادة رجالهمتغلغلاً في صفوف أعدائه، حتى ارتبكت صفوف التتار، وشاع أن قائدهم "كتبغانوين" قد قُتل، فولوا الأدبار لا يلوون على شيء.
وكان "كتبغا نوين" يضرب يمينًا وشمالاً غيرة وحمية، وكان يكر علىالمسلمين، فرغَّبه جماعة من أتباعه في الهرب، ولكنه لم يستمع إليهم وقال:"لا مفر من الموت هنا، فالموت مع العزة والشرف خير من الهرب مع الذلوالهوان".
ورغم أن جنوده تركوه وهربوا فقد ظل يقاتل حتى قُتل، وفي رواية أخرى أن جواده كبا به، فأسره المسلمون، والرواية الأولى أصح.
وكانت هناك مزرعة للقصببالقرب من ساحة القتال، فاختفى فيها فوج من التتار، فأمر قطز جنوده أنيضرموا النار في تلك المزرعة، وأحرقوا فوج التتار جميعًا.
وبدأ المسلمون فورًا بمطاردة التتار، كما طاردهم المسلمون الذين لم يكونوامن جيش قطز، حتى دخل قطز دمشق في أواخر شهر رمضان المبارك، فاستقبله أهلهابالابتهاج.
وامتدت المطاردة السريعة إلى قرب مدينة حلب، فلما شعر التتار باقترابالمسلمين منهم تركوا ما كان بأيديهم من أسارى المسلمين، ورموا أولادهم،فتخطفهم الناس، وقاسوا من البلاء ما يستحقونه.
أسباب النصر
[/size]
يجدر بنا أن نتوقف قليلاً لمعرفة أسباب انتصار قطز على التتار.
إن كل الحسابات العسكرية تجعل النصر إلى جانب التتار بدون أدنى شك، ولكنالواقع يناقض كل تلك الحسابات، فقد انتصر قطز، وانهزم التتار.
فقد كان لقادة التتار تجارب طويلة في الحروب، ولم يكن لقطز وقادته مثلتجارب قادة التتار ولا ما يقاربها، والقائد المجرب أفضل من القائد غيرالمجرب قطعًا، وكذلك الجيش المجرب أفضل من الجيش الذي لا تجربة له.
وكانت معنويات التتار قادة وجنودًا عالية جدًا، لأنهم تقدموا من نصر إلىنصر، ولم تهزم لهم راية من قبل أبدًا، وكانت معنويات قادة قطز وجنودهمنهارة، وقد خرج أكثر القادة إلى القتال كرهًا.
وقد انتصر التتار في حرب الأعصاب، فكانوا ينتصرون بالرعب، مما يؤثر فيمعنويات أعدائهم أسوأ الأثر، والجيش الذي يتحلى بالمعنويات العالية ينتصرعلى الجيش الذي تكون معنوياته منهارة.
وكانت كفاية جيش التتار متفوقة على كفاية جيش قطز فواقًا كاسحًا، لأن جيشالتتار خاض معارك كثيرة، لذلك كانت تجربته العملية على فنون القتال باهرةإلى أبعد الحدود، أما جيش قطز، فقليل التجربة العملية قليل التدريب.
والجيش الذي يتحلى بالكفاية -خاصة في ميدان التدريب العملي- ينتصر على الجيش الذي لا كفاية عملية لديه.
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز عَددًا وعُددًا، وقد ازداد تعداد جيشالتتار بالذين التحقوا به من الموالين والمرتزقة والصليبيين، بعد احتلالهأرض الشام، والتفوق العَددي والعُددي من عوامل إحراز النصر.
وكان جيش التتار يتمتع بمزية فرسانه المتدربين، وكان تعداد فرسانه كبيرًا،مما ييسر له سرعة الحركة، ويؤدي إلى تطبيق حرب الصاعقة التي كانت من سماتحرب التتار، والجيش الذي يتحلى بسرعة الحركة يتغلب عل الجيش الذي لا يتحلىبهذه الميزة.
وكانت مواضع جيش التتار في عين جالوت أفضل من مواضع جيش قطز، لأن تلكالمواضع كانت محتلة من التتار قبل وصول جيش قطز إلى المنطقة التي كانت تحتسيطرة التتار.
وللأرض أثر عظيم في إحراز النصر
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز في قضاياه الإدارية؛ إذ كان يستندعلى قواعده القريبة في أرض الشام، وهي التي استولى عليها واستثمر خيراتها،بينما كانت قواعد جيش قطز بعيدة عنه، لأنه كان يعتمد على مصر وحدها فيإعاشته، والمسافة بين مصر وعين جالوت طويلة؛ خاصة في تلك الأيام التي كانتالقضايا الإدارية تنقل على الدواب والجمال مخترقة الصحاري والوديانوالقفار.
هذا التفوق الساحق الذي بجانب التتار في سبع مزايا حيوية:
التجربة العملية، والمعنويات العالية، والكفاية القتالية، والعدد والعدة،وسرعة الحركة، والأرض، والقضايا الإدارية، هذا التفوق له نتيجة متوقعةواحدة، هي: إحراز النصر على قطز وجيشه أسوة بانتصاراتهم الباهرة على الروموالفرس والعرب والأمم الأخرى في زحفهم المظفر الطويل.
ولكن الواقع أن الجيش المصري انتصر على جيش التتار، فكيف حدث ذلك؟
أولاً: قدّم شيوخ مصر، وعلى رأسهم الشيخ العز بن عبد السلام إرشاداتهمالدينية لقطز، فأخذ بها ونفذها على نفسه وعلى رجاله بكل أمانة وإخلاص،وأمر رجاله بالمعروف ونهاهم عن المنكر، فخرج الجيش من مصر تائبًا منيبًاطاهرًا من الذنوب.
وكان على رأس المجاهدين جميع القادرين من شيوخ مصر على السفر وحمل السلاح وتحمل أعباء الجهاد.
ثانيًا: قيادة قطز الذي كان يتحلى بإرادة القتال بأجلى مظاهرها، فكانمصممًا على قتال التتار مهما تحمل من مشاق، وبذل من تضحيات، ولاقى من صعاب.
ولعل إصراره على مهاجمة التتار خارج مصر، وعدم بقائه في مصر، واختيارهالهجوم دون الدفاع، واستبعاده خطة الدفاع المستكن، هو الذي جعل رجاله قادةوجنودًا في موقف لا يؤدي إلا إلى الموت أو النصر، مما جعلهم يستقتلون فيالحرب، لأنه لم يكن أمامهم في حالة الهزيمة غير الإبادة والإفناء.
إن قطز لم يجاهد ليتولى السلطة، بل تولى السلطة من أجل الجهاد.
ثالثًا: إيمان قطز بالله واعتماده عليه، وإيمان المتطوعين في جيشه منالمجاهدين الصادقين الذين خرجوا طلبًا للشهادة، كان له أثر عظيم في إحرازالنصر.
إن أثر قطز والمجاهدين معه في معركة عين جالوت كان عظيمًا، وحين اطمأن قطزإلى نصر الله ترجل عن فرسه، ومرغ وجهه في التراب تواضعًا، وسجد لله شكرًاعلى نصره، وحمد الله كثيرًا وأثنى عليه ثناءً عاطرًا.
لقد كان انتصار المسلمين في "عين جالوت" على التتار انتصار عقيدة لا مراء.
الشــهيد
لم تمض أسابيع قلائل، حتى طُهرت بلاد الشام كلها من فلول التتار، فرتب قطزأمور البلاد، واستناب على دمشق أحد رجاله، ثم خرج من دمشق عائدًا إلى مصر،إلى أن وصل إلى "القصير"، وبقي بينه وبين الصالحية المعسكر الذي حشد فيهقواته قبل الحركة لقتال التتار مرحلة واحدة، ورحلت قواته إلى جهةالصالحية، فانقض عليه عدد من الأمراء وقتلوه على مقربة من خيمته، ذلك يومالسبت 16 من ذي القعدة سنة 658 هـ- أكتوبر- 1260م، ولم يمض يومان على قتلهحتى حلّ "بيبرس" مكانه باسم الملك الظاهر.
وقد دفن قطز في موضع قتله، وكثر أسف الناس وحزنهم عليه، وكان قبره يُقصد دائمًا للزيارة..
وكانت سلطنة قطز سنة إلا يومًا واحدًا.
وكان قطز بطلاً شجاعًا مقدامًا حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير،كما قال فيه الذهبي، وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوض الله شبابهبالجنة ورضي عنه.
لقد كان قطز صادقًا عزيز النفس، كريم الأخلاق، مجاهدًا من الطراز الأول.
قُتل قاهر التتار مظلومًا، فخسر روحه وربح الدنيا والآخرة، وسجله التاريخفي أنصع صفحاته - رضي الله عنه وأرضاه-، وجعله قدوة صالحة لقادة العربوالمسلمين، فما أشبه غزو التتار بغزو الصهاينة، وما أشبه دعم الصليبيينالقدامى للتتار بدعم الصليبيين الجدد للصهاينة، وما أحوجنا اليوم إلى مثلهقائدًا يتخذ الهجوم مبدأ، ولا يكتفي بالدفاع، ويتخذ العمل منهجًا ولايكتفي بالكلام، ويقاتل اليهود وعباد الصليب على كل شبر اغتصب من دولةالخلافة ويطلب الموت لتوهب له الحياة
.....
..تم بحمد الله ..
إن كل الحسابات العسكرية تجعل النصر إلى جانب التتار بدون أدنى شك، ولكنالواقع يناقض كل تلك الحسابات، فقد انتصر قطز، وانهزم التتار.
فقد كان لقادة التتار تجارب طويلة في الحروب، ولم يكن لقطز وقادته مثلتجارب قادة التتار ولا ما يقاربها، والقائد المجرب أفضل من القائد غيرالمجرب قطعًا، وكذلك الجيش المجرب أفضل من الجيش الذي لا تجربة له.
وكانت معنويات التتار قادة وجنودًا عالية جدًا، لأنهم تقدموا من نصر إلىنصر، ولم تهزم لهم راية من قبل أبدًا، وكانت معنويات قادة قطز وجنودهمنهارة، وقد خرج أكثر القادة إلى القتال كرهًا.
وقد انتصر التتار في حرب الأعصاب، فكانوا ينتصرون بالرعب، مما يؤثر فيمعنويات أعدائهم أسوأ الأثر، والجيش الذي يتحلى بالمعنويات العالية ينتصرعلى الجيش الذي تكون معنوياته منهارة.
وكانت كفاية جيش التتار متفوقة على كفاية جيش قطز فواقًا كاسحًا، لأن جيشالتتار خاض معارك كثيرة، لذلك كانت تجربته العملية على فنون القتال باهرةإلى أبعد الحدود، أما جيش قطز، فقليل التجربة العملية قليل التدريب.
والجيش الذي يتحلى بالكفاية -خاصة في ميدان التدريب العملي- ينتصر على الجيش الذي لا كفاية عملية لديه.
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز عَددًا وعُددًا، وقد ازداد تعداد جيشالتتار بالذين التحقوا به من الموالين والمرتزقة والصليبيين، بعد احتلالهأرض الشام، والتفوق العَددي والعُددي من عوامل إحراز النصر.
وكان جيش التتار يتمتع بمزية فرسانه المتدربين، وكان تعداد فرسانه كبيرًا،مما ييسر له سرعة الحركة، ويؤدي إلى تطبيق حرب الصاعقة التي كانت من سماتحرب التتار، والجيش الذي يتحلى بسرعة الحركة يتغلب عل الجيش الذي لا يتحلىبهذه الميزة.
وكانت مواضع جيش التتار في عين جالوت أفضل من مواضع جيش قطز، لأن تلكالمواضع كانت محتلة من التتار قبل وصول جيش قطز إلى المنطقة التي كانت تحتسيطرة التتار.
وللأرض أثر عظيم في إحراز النصر
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز في قضاياه الإدارية؛ إذ كان يستندعلى قواعده القريبة في أرض الشام، وهي التي استولى عليها واستثمر خيراتها،بينما كانت قواعد جيش قطز بعيدة عنه، لأنه كان يعتمد على مصر وحدها فيإعاشته، والمسافة بين مصر وعين جالوت طويلة؛ خاصة في تلك الأيام التي كانتالقضايا الإدارية تنقل على الدواب والجمال مخترقة الصحاري والوديانوالقفار.
هذا التفوق الساحق الذي بجانب التتار في سبع مزايا حيوية:
التجربة العملية، والمعنويات العالية، والكفاية القتالية، والعدد والعدة،وسرعة الحركة، والأرض، والقضايا الإدارية، هذا التفوق له نتيجة متوقعةواحدة، هي: إحراز النصر على قطز وجيشه أسوة بانتصاراتهم الباهرة على الروموالفرس والعرب والأمم الأخرى في زحفهم المظفر الطويل.
ولكن الواقع أن الجيش المصري انتصر على جيش التتار، فكيف حدث ذلك؟
أولاً: قدّم شيوخ مصر، وعلى رأسهم الشيخ العز بن عبد السلام إرشاداتهمالدينية لقطز، فأخذ بها ونفذها على نفسه وعلى رجاله بكل أمانة وإخلاص،وأمر رجاله بالمعروف ونهاهم عن المنكر، فخرج الجيش من مصر تائبًا منيبًاطاهرًا من الذنوب.
وكان على رأس المجاهدين جميع القادرين من شيوخ مصر على السفر وحمل السلاح وتحمل أعباء الجهاد.
ثانيًا: قيادة قطز الذي كان يتحلى بإرادة القتال بأجلى مظاهرها، فكانمصممًا على قتال التتار مهما تحمل من مشاق، وبذل من تضحيات، ولاقى من صعاب.
ولعل إصراره على مهاجمة التتار خارج مصر، وعدم بقائه في مصر، واختيارهالهجوم دون الدفاع، واستبعاده خطة الدفاع المستكن، هو الذي جعل رجاله قادةوجنودًا في موقف لا يؤدي إلا إلى الموت أو النصر، مما جعلهم يستقتلون فيالحرب، لأنه لم يكن أمامهم في حالة الهزيمة غير الإبادة والإفناء.
إن قطز لم يجاهد ليتولى السلطة، بل تولى السلطة من أجل الجهاد.
ثالثًا: إيمان قطز بالله واعتماده عليه، وإيمان المتطوعين في جيشه منالمجاهدين الصادقين الذين خرجوا طلبًا للشهادة، كان له أثر عظيم في إحرازالنصر.
إن أثر قطز والمجاهدين معه في معركة عين جالوت كان عظيمًا، وحين اطمأن قطزإلى نصر الله ترجل عن فرسه، ومرغ وجهه في التراب تواضعًا، وسجد لله شكرًاعلى نصره، وحمد الله كثيرًا وأثنى عليه ثناءً عاطرًا.
لقد كان انتصار المسلمين في "عين جالوت" على التتار انتصار عقيدة لا مراء.
الشــهيد
لم تمض أسابيع قلائل، حتى طُهرت بلاد الشام كلها من فلول التتار، فرتب قطزأمور البلاد، واستناب على دمشق أحد رجاله، ثم خرج من دمشق عائدًا إلى مصر،إلى أن وصل إلى "القصير"، وبقي بينه وبين الصالحية المعسكر الذي حشد فيهقواته قبل الحركة لقتال التتار مرحلة واحدة، ورحلت قواته إلى جهةالصالحية، فانقض عليه عدد من الأمراء وقتلوه على مقربة من خيمته، ذلك يومالسبت 16 من ذي القعدة سنة 658 هـ- أكتوبر- 1260م، ولم يمض يومان على قتلهحتى حلّ "بيبرس" مكانه باسم الملك الظاهر.
وقد دفن قطز في موضع قتله، وكثر أسف الناس وحزنهم عليه، وكان قبره يُقصد دائمًا للزيارة..
وكانت سلطنة قطز سنة إلا يومًا واحدًا.
وكان قطز بطلاً شجاعًا مقدامًا حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير،كما قال فيه الذهبي، وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوض الله شبابهبالجنة ورضي عنه.
لقد كان قطز صادقًا عزيز النفس، كريم الأخلاق، مجاهدًا من الطراز الأول.
قُتل قاهر التتار مظلومًا، فخسر روحه وربح الدنيا والآخرة، وسجله التاريخفي أنصع صفحاته - رضي الله عنه وأرضاه-، وجعله قدوة صالحة لقادة العربوالمسلمين، فما أشبه غزو التتار بغزو الصهاينة، وما أشبه دعم الصليبيينالقدامى للتتار بدعم الصليبيين الجدد للصهاينة، وما أحوجنا اليوم إلى مثلهقائدًا يتخذ الهجوم مبدأ، ولا يكتفي بالدفاع، ويتخذ العمل منهجًا ولايكتفي بالكلام، ويقاتل اليهود وعباد الصليب على كل شبر اغتصب من دولةالخلافة ويطلب الموت لتوهب له الحياة
.....
..تم بحمد الله ..
قصة حروب التتار
قصة حروب التتار
لاجتياح التتري الأول للأمة الإسلامية
فكر "جنكيز خان" في أن أفضل طريقة لإسقاط الخلافة العباسية في العراق هي التمركز أولاً في منطقة أفغانستان وأوزبكستان، لأن المسافة كبيرة بين الصين والعراق، ولابد من وجود قواعد إمداد ثابتة للجيوش التترية في منطقة متوسطة بين العراق والصين، كما أن هذه المنطقة التي تعرف بالقوقاز غنية بثرواتها الزراعية والاقتصادية، وكانت من حواضر الإسلام المشهورة، وكنوزها كثيرة، وأموالها وفيرة، هذا بالإضافة إلى أنه لا يستطيع تكتيكيًا أن يحارب العراق وفي ظهره شعوب مسلمة قد تحاربه أو تقطع عليه خطوط الإمداد..
كل هذه العوامل جعلت "جنكيز خان" يفكر أولاً في خوض حروب متتالية مع هذه المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية والتي تُعرَف في ذلك الوقت بالدولة الخوارزمية، وكانت تضم بين طياتها عدة أقاليم إسلامية مهمة مثل: أفغانستان وأوزبكستان والتركمانستان وكازاخستان وطاجيكستان وباكستان وأجزاء من إيران، وكانت عاصمة هذه الدولة الشاسعة هي مدينة "أورجندة" (في تركمنستان حاليًا)..
وكان جنكيز خان في شبه اتفاق مع ملك خوارزم (محمد بن خوارزم شاه) على حسن الجوار، ومع ذلك فلم يكن جنكيز خان من أولئك الذين يهتمون بعقودهم، أو يحترمون اتفاقياتهم، ولكنه عقد هذا الاتفاق مع ملك خوارزم ليؤمن ظهره إلى أن يستتب له الأمر في شرق آسيا، فأما وقد استقرت الأوضاع في منطقة الصين ومنغوليا، فقد حان وقت التوسع غربًا في أملاك الدولة الإسلامية..
ولا مانع طبعًا من نقض العهد، وتمزيق الاتفاقيات السابقة، وهي سنة في أهل الباطل: "أو كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون".. البقرة : 100
ولكن حتى تكون الحرب مقنعة لكلا الطرفين، لابد من وجود سبب يدعو إلى الحرب، وإلى الادعاء بأن الاتفاقيات لم تعد سارية، وقد بحث جنكيز خان عن سبب مناسب، ولكنه لم يجد ولكن ـ سبحان الله ـ لقد حدث أمر مفاجيء بغير إعداد من جنكيز خان، وهذا الأمر المفاجيء يصلح أن يكون سببًا مقنعًا للحرب، لقد جاء هذا السبب مبكرًا بالنسبة لإعداد جنكيز خان ولرغبته، ولكن لا مانع من استغلاله، ولا مانع من تقديم بعض الخطوات في خطة الحرب، وتأخير بعض الخطوات الأخرى..
فما الذريعة التي دخل بها "جنكيز خان" أرض خوارزم شاه ؟!
لقد ذهبت مجموعة من تجار المغول إلى مدينة " أوترار" الإسلامية في مملكة خوارزم شاه، ولما رآهم حاكم المدينة المسلم أمسك بهم وقتلهم، وقد اختلف المؤرخون في تفسير هذه الحادثة..
وعندما علم جنكيز خان بأمر هذه الحادثة أرسل إلى محمد بن خوارزم شاه يطلب منه تسليم القتلة إليه حتى يحاكمهم بنفسه، ولكن محمد بن خوارزم شاه اعتبر ذلك تعديًا على سيادة البلاد المسلمة، فهو لا يُسلِّم مجرمًا ليحاكم في بلدة أخرى بشريعة أخرى.. غير أنه قال:إنه سيحاكمهم في بلاده, فإن ثبت بعد التحقيق أنهم مخطئون عاقبهم في بلاده بالقانون السائد فيها وهو الشريعة الإسلامية..
وهذا الكلام وإن كان منطقيًا ومقبولاً في كل بقاع الأرض إلا أنه بالطبع لم يكن مقنعًا لجنكيز خان.. أو قل: إن جنكيز خان لم يرغب في الاقتناع، فليس المجال مجال حجة أو برهان أو دليل..
حقيقة الأمر أن جنكيز خان قد أعد لغزو بلاد المسلمين خططًا مسبقة.. ولن يعطلها شئ.. وإنما كان يبحث فقط عن علة مناسبة أو شبه مناسبة، وقد وجد في هذا الأمر العلة التي كان يريدها..
وبدأت الهجمة التترية الأولى على دولة خوارزم شاه عام 616هـ، فقد جاء جنكيز خان بجيشه الكبير لغزو خوارزم شاه، وخرج له محمد بن خوارزم شاه بجيشه أيضًا والتقى الفريقان في موقعة شنيعة استمرت أربعة أيام متصلة، وذلك شرق نهر سيحون (وهو يعرف الآن بنهر سرداريا ويقع في دولة كازاخستان المسلمة، وقُتِلَ من الفريقين خلق كثير، فقد استشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون ألفًا، ومات من التتار أضعاف ذلك، ثم تحاجز الفريقان، وانسحب "محمد بن خوارزم شاه" بجيشه لأنه وجد أن أعداد التتار هائلة، وذهب ليحصن مدنه الكبرى في مملكته الواسعة، وخاصة العاصمة أورجندة..
انشغل "محمد بن خوارزم شاه" في تحضير الجيوش من أطراف دولته، ولكن لا ننسى أنه كان منفصلاً ـ بل معاديًا ـ للخلافة العباسية في العراق، ولغيرها من الممالك الإسلامية، فلم يكن على وفاق مع الأتراك ولا مع السلاجقة ولا مع الغوريين في الهند، وهكذا كانت مملكة خوارزم شاه منعزلة عن بقية العالم الإسلامي ووقفت وحيدة في مواجهة الغزو التتري المهول..
وهذه المملكة ـ وإن كانت قوية ـ وتمكنت من الثبات في أول اللقاءات فإنها ولا شك لن تصمد بمفردها أمام الضربات التترية المتوالية..
وعلى الرغم م قوة التتار وبأسهم، وكثرة أعدادهم إلا أن سبب المأساة الإسلامية بعد ذلك لن يكون بسبب هذه القوة وإنما سيكون بسبب الفرقة والتشتت والتشرذم بين ممالك المسلمين، وصدق الله العظيم إذ يقول: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين".. (الأنفال : 46)..
فجعل الله ـ عز وجل ـ الفشل قرينًا للتنازع، والمسلمون كانوا في تنازع مستمر، وخلاف دائم وعندما كانت تحدث بعض فترات الهدنة في الحروب مع التتار ـ كما سنرى ـ كان المسلمون يُغِيرُون على بعضهم، ويأسرون ويقتلون بعضهم البعض، وقد عُلِمَ يقينًا أن من كانت هذه صفتهم، فلن يُكتبَ لهم النصرُ أبدًا..
روى الإمام مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ".... وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم من بأقطارها ـ أو قال: من بين أقطارها ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا"..
فالمسلمون كانوا ـ في تلك الآونة ـ يهلك بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا، فلا عجب إن غلب عليهم التتار أو غير التتار..
وبالإضافة إلى داء الفرقة فإن هناك خطأ واضحًا في إعداد "محمد بن خوارزم شاه"، وهو أنه مع اهتمامه بتحصين العاصمة "أورجندة" إلا أنه ترك كل المساحات الشرقية من دولته دون حماية كافية، ولكن لماذا يقع قائد محنك خبير بالحروب في مثل هذا الخطأ الساذج ؟!
الواقع أن الخطأ لم يكن تكتيكيًا في المقام الأول، ولكنه كان خطأً قلبيًا أخلاقيًا في الأساس، لقد اهتم "محمد بن خوارزم شاه" بتأمين نفسه وأسرته ومقربيه، وتهاون جدًا في تأمين شعبه، وحافظ جدًا على كنوزه وكنوز آبائه، ولكنه أهمل الحفاظ على مقدرات وأملاك شعبه, وعادة ما يسقط أمثال هؤلاء القواد أمام الأزمات التي تعصف بأممهم، وعادة ما تسقط أيضًا الشعوب التي تقبل بهذه الأوضاع المقلوبة دون إصلاح..
اجتياح بُخَارَى:
لقد جهَّز جنكيزخان جيشه من جديد، وأسرع إلى اختراق كل إقليم كازاخستان الكبير، ووصل في تقدمه إلى مدينة بخارى المسلمة (في دولة أوزبكستان الآن) وحاصرها في سنة 616هـ ثم طلب من أهلها التسليم على أن يعطيهم الأمان، وكان "محمد بن خوارزم" بعيدًا عن بخارى في ذلك الوقت، فاحتار أهل بخاري ماذا يفعلون ؟ ثم ظهر رأيان:
أما الرأي الأول فقال أصحابه: نقاتل التتار، وندافع عن مدينتنا، وأما الرأي الثاني فقال أصحابه: نأخذ بالأمان، ونفتح الأبواب للتتار لتجنُّب القتل، وما أدرك هؤلاء أن التتار "لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة".. (التوبة : 10)..
وهكذا انقسم أهل البلد إلى فريقين، فريق من المجاهدين قرر القتال، وهؤلاء اعتصموا بالقلعة الكبيرة في المدينة، وانضم إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها، وفريق آخر من المستسلمين وهو الفريق الأعظم والأكبر، وهؤلاء قرروا فتح أبواب المدينة والاعتماد على أمان التتار..
وفتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار، ودخل جنكيز خان إلى المدينة الكبيرة، وأعطى أهلها الأمان فعلاً في أول دخوله خديعة لهم، وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين بالقلعة..
وفعلاً بدأ جنكيز خان بحصار القلعة، بل أمر أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة عشرة أيام ثم فتحها قسرًا، ولما دخل إليها قاتل من فيها حتى قتلهم جميعًا، ولم يبق بمدينة بخارى مجاهدون..
وهنا بدأ جنكيز خان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضتها، ثم اصطفى كل ذلك لنفسه ثم أَحَلَّ المدينة المسلمة لجنده، ففعلوا بها ما لا يتخيله عقل، ويصور لنا ابن كثير هذا الموقف في كتابه القيم "البداية والنهاية" قائلاً: "فقتلوا من أهلها خلقًا لا يعلمهم إلا الله عز وجل وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهلنَّ (اغتصبوا البنت في حضرة أبيها، ومع الزوجة في حضرة زوجها) فمن المسلمين من قاتل دون حريمه حتى قتل, ومنهم من أُسِر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعل التتار النار في دُورِ بخارى ومدارسها ومساجدها، فاحترقت المدينة حتى صارت خاوية على عروشها"..
انتهى كلام ابن كثير، ولا حول ولا قوة إلا بالله !
هلك المجاهدون الصابرون فيها، وكذلك هلك المستسلمون المتخاذلون..
روى البخاري مسلم عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال: نعم. "إذا كثر الخبَث"..
وكان الخبث قد كثر في هذه البلاد، وإذا كثر الخبث لابد أن تحدث الهلكة، وصدق الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم..
وكانت سنة 617هـ من أبشع السنوات التي مرت على المسلمين منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى هذه اللحظة، لقد علا فيها نجم التتار، واجتاحوا البلاد الإسلامية اجتياحًا لم يُسبق، وأحدثوا فيها من المجازر والفظائع والمنكرات ما لم يُسمعْ به، وما لا يُتخيَّل أصلاً..
ومن المناسب أن نقدم لهذه الأحداث بكلام المؤرخ الإسلامي العلامة "ابن الأثير الجزري" رحمه الله في كتابه القيم (الكامل في التاريخ) وكلامه في غاية الأهمية ويعتبر به جدًا في هذا المجال أكثر من كلام غيره، لأنه كان معاصرًا لكل هذه الأحداث، وليس من رأى كمن سمع..
يقول ابن الأثير رحمه الله وهو يقدم لشرحه لقصة التتار في بلاد المسلمين:
"لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليها رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، إلا أنه حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها.. عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يُبتلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها..".
كانت هذه مقدمة ابن الأثير رحمه الله لكلام طويل يفيض ألمًا وحزنًا وهمًا وغمًا..
ففي عام 617 هـ انتقل التتار بعد أن دمروا مدينة بخاري إلى المدينة المجاورة "سمرقند" (وهي أيضًا في دولة أوزبكستان الحالية)، واصطحبوا في طريقهم مجموعة كبيرة من أسارى المسلمين من مدينة بخارى، وكما يقول ابن الأثير: "فساروا بهم على أقبح صورة، فكل من أعيا وعجز عن المشي قتل"..
أما لماذا كانوا يصطحبون الأسارى معهم؟ فالأسباب كثيرة:
أولاً: كانوا يعطون كل عشرة من الأسارى علمًا من أعلام التتار يرفعونه، فإذا رآهم أحد من بعيد ظن أنهم من التتار، وبذلك تكثر الأعداد في أعين أعدائهم بشكل رهيب، فلا يتخيلون أنهم يستطيعون محاربتهم، وتبدأ الهزيمة النفسية تدب في قلوب من يواجهونهم.
ثانيًا: كانوا يجبرون الأسارى على أن يقاتلوا معهم ضد أعدائهم، ومن رفض القتال أو لم يظهر فيه قوة قتلوه..
ثالثًا: كانوا يتترسون بهم عند لقاء المسلمين، فيضعونهم في أول الصفوف كالدروع لهم، ويختبئون خلفهم، ويطلقون من خلفهم السهام والرماح، وهم يحتمون بهم..
رابعًا: كانوا يقتلونهم على أبواب المدن لِبَثِّ الرعب في قلوب أعدائهم، وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا التتار..
خامسًا: كانوا يبادلون بهم الأسرى في حال أسر رجال من التتار في القتال، وهذا قليل لقلة الهزائم في جيش التتار..
كيف كان الوضع في سمرقند؟
كانت سمرقند من حواضر الإسلام العظيمة، ومن أغنى مدن المسلمين في ذلك الوقت، ولها قلاع حصينة، وأسوار عالية ولقيمتها الاستراتيجية والاقتصادية فقد ترك فيها "محمد بن خوارزم شاه" زعيم الدولة الخوارزمية خمسين ألف جندي خوارزمي لحاميتها هذا فوق أهلها، وكانوا أعدادًا ضخمة تقدر بمئات الآلاف أما "محمد بن خوارزم شاه" نفسه فقد استقر في عاصمة بلاده مدينة "أورجندة"..
وصل جنكيز خان إلى مدينة سمرقند وحاصرها من كل الاتجاهات، وكان من المفروض أن يخرج له الجيش الخوارزمي النظامي، ولكن لشدة الأسف، لقد دبَّ الرعب في قلوبهم، وتعلقوا بالحياة تعلقًا مخزيًا، فأبوا أن يخرجوا للدفاع عن المدينة المسلمة..
فاجتمع أهل البلد وتباحثوا في أمرهم بعد أن فشلوا في إقناع الجيش المتخاذل أن يخرج للدفاع عنهم، وقرر البعض من الذين في قلوبهم حمية من عامة الناس أن يخرجوا لحرب التتار، وبالفعل خرج سبعون ألفًا من شجعان البلد، ومن أهل الجلد، ومن أهل العلم، خرجوا جميعًا على أرجلهم دون خيول ولا دواب، ولم يكن لهم من الدراية العسكرية حظ يمكنهم من القتال، ولكنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعله الجيش المتهاون الذي لم تستيقظ نخوته بعد..
أحاط جيش التتار بالمسلمين تمامًا، وبدأت عملية تصفية بشعة لأفضل رجال سمرقند..
كم من المسلمين قتل في هذا اللقاء غير المتكافيء؟!
لقد استشهدوا عن آخرهم، فقد المسلمون في سمرقند سبعين ألفًا من رجالهم دفعة واحدة، والحق أن هذه لم تكن مفاجأة، بل كان أمرًا متوقعًا، لقد دفع المسلمون ثمن عدم استعدادهم للقتال، وعدم اهتمامهم بالتربية العسكرية لأبنائهم، وعدم الاكتراث بالقوى الهائلة التي تحيط بدولتهم..
وعاد التتار من جديد لحصار سمرقند..
وأخذ الجيش الخوارزمي قرارًا مهينًا..!!
لقد قرروا أن يطلبوا الأمان من التتار على أن يفتحوا أبواب البلدة لهم، وذلك مع أنهم يعلمون أن التتار لا يحترمون العهود، ولا يرتبطون باتفاقيات، وما أحداث بخارى منهم ببعيد، ولكن تمسكهم بالحياة إلى آخر درجة جعلهم يتعلقون بأهداب أمل مستحيل، وبالطبع وافق التتار على إعطاء الأمان الوهمي للمدينة، وفتح الجيش أبواب المدينة بالفعل، وخرجوا مستسلمين، فقال لهم التتار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم، ونحن نسيركم إلى مأمنكم؛ ففعلوا ذلك في خنوع، وعندما أخذ التتار أسلحتهم ودوابهم فعلوا ما كان متوقعًا منهم، لقد وضعوا السيف في الجنود الخوارزمية فقتلوهم عن آخرهم، ودفع الجنود جزاء ذلتهم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
ثم دخل التتار مدينة سمرقند العريقة، ففعلوا بها مثلما فعلوا سابقًا في بخارى.. فقتلوا أعدادًا لا تحصى مثلما من الرجال والنساء والأطفال، ونهبوا كل ثروات البلد، وانتهكوا حرمات النساء، وعذبوا الناس بأنواع العذاب البشعة بحثًا عن أموالهم، وسبوا أعدادًا هائلة من النساء والأطفال، ومن لم يصلح للسبي لكبر سنه، أو لضعف جسده قتلوه، وأحرقوا الجامع الكبير، وتركوا المدينة خرابًا..
وليت شعري!! كيف سمع المسلمون في أطراف الأرض آنذاك بهذه المجازر ولم يتحركوا؟!
كيف وصل إليهم انتهاك كل حرمة للمسلمين، ولم يجتمعوا لقتال التتار؟!
كيف علموا بضياع الدين، وضياع النفس، وضياع العرض، وضياع المال، ثم ما زالوا متفرقين؟!.. لقد كان كل حاكم من حكام المسلمين يحكم قُطرًا صغيرًا، ويرفع عليه علمًا يعتقد أنه في أمان ما دامت الحروب لا تدور في قطره المحدود..!! لقد كانوا يخدعون أنفسهم بالأمان الوهمي حتى لو كانت الحرب على بعد أميال منهم..! فلذلك لا تندهش مما تقرأ الآن أو تسمع..
نهاية ذليلة:
واستقر جنكيز خان لعنه الله بسمرقند، فقد أعجبته المدينة العملاقة التي لم ير مثلها قبل ذلك وأول ما فكر فيه هو قتل رأس هذه الدولة ليسهل عليه بعد ذلك احتلالها دون خوف من تجميع الجيوش ضده، فأرسل عشرين ألفًا من فرسانه يطلبون محمد بن خوارزم شاه زعيم البلاد، وإرسال عشرين ألف جندي فقط في إشارة كبيرة إلى استهزاء جنكيز خان بمحمد بن خوارزم وبأمته، فهذا الرقم الهزيل لا يقارن بالملايين المسلمة التي سيتحرك هذا الجيش التتري في أعماقها..
انطلق الفرسان التتار إلى مدينة أورجندة حيث يستقر محمد بن خوارزم شاه، ففر منها مع نفر من خاصته، واتجه إلى نيسابور (في إيران حاليًا) أما الجند فقد تفرق كل منهم في جهة، وجند التتار يتتبعون محمد بن خوارزم شاه مخترقين البلاد الإسلامية إلى نيسابور، وكان من الممكن أن تحاصَر هذه المقدمة التترية في أي بقعة من بقاع البلاد الإسلامية التي يتجولون فيها.. لكن الرعب كان قد استولى على قلوب المسلمين، فكانوا يفرون منهم في كل مكان، وقد أخذوا طريق الفرار اقتداءً بزعيمهم الذي ظل يفر من بلد إلى آخر..
ولم يكن التتار في هذه المطاردة الشرسة يتعرضون لسكان البلاد بالسلب أو النهب أو القتل، لأن لهم هدفًا واضحًا، فهم لا يريدون أن يضيعوا وقتًا في القتل وجمع الغنائم إنما يريدون فقط اللحاق بالزعيم المسلم، ومن جانب آخر فإن الناس لم يتعرضوا لهم لئلا يثيروا حفيظتهم، فيصيبهم من أذاهم..
وهكذا وصل التتار إلى مسافة قريبة من مدينة نيسابور العظيمة في فترة وجيزة،ولم يتمكن محمد بن خوارزم شاه من جمع الأنصار والجنود، فالوقت ضيق، والتتار في أثره، فلما علم بقربهم من نيسابور، ترك المدينة واتجه إلى مدينة مازندران (من مدن إيران) فلما علم التتار بذلك لم يدخلوا نيسابور بل اتجهوا خلفه مباشرة، فترك مازندران إلى مدينة الري، ثم إلى مدينة همدان (وهما من المدن الإيرانية أيضًا)، والتتار في أثره، ثم عاد إلى مدينة مازندران في فرار مخزٍ فاضح.. ثم اتجه إلى إقليم طبرستان (الإيراني) على ساحل بحر الخزر (بحر قزوين) حيث وجد سفينة فركبها وسارت به إلى عمق البحر، إلى جزيرة في وسط بحر قزوين، وهناك رضي بالبقاء فيها في قلعة كانت هناك في فقر شديد، وحياة صعبة، وهو الملك الذي ملك بلادًا شاسعة، وأموالاً لا تعد..
ولكن رضى بذلك لكي يفر من الموت..
وسبحان الله.. فإن الموت لا يفر منه أحد.. فما هي إلا أيام حتى مات "محمد بن خوارزم شاه" في هذه الجزيرة في داخل القلعة وحيدًا طريدًا شريدًا فقيرًا، حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنونه به، فكفَّنُوه في فراش كان ينام عليه..!!
"أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة" .. (النساء: 78).
أيهما أشرف يا إخواني؟.. أن يموت الزعيم المسلم ذليلاً في هذه الجزيرة في عمق البحر أم يموت رافع الرأس، رابط الجأش، مطمئن القلب في ميدان الجهاد؟!
أيهما أشرف.. أن يموت مقبلاً أم أن يموت مدبرًا؟!
أيهما أشرف..أن يموت هاربًا ام ان يموت شهيدًا؟!
إن الإنسان لا يختار ميعاد موته، ولكنه يستطيع أن يختار طريقة موته، الشجاعة لا تُقصِّر الأعمار.. كما أن الفرار والهرب والجبن لا تطيلها أبدًا، والذي يعيش مجاهدًا في سبيل الله يموت مجاهدًا في سبيل الله وإن مات على فراشه..
روى الإمام مسلم عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"..
اجتياح فارس:
لقد عادت الفرقة التترية بعد مطاردة "محمد بن خوارزم شاه" على شاطئ بحر قزوين إلى بلاد "مازندران" (في إيران)، ودخلوها بسهولة عجيبة لا لقوتهم، ولكن لضعف نفسيات أهلها في ذلك الوقت، وعندما دخلوها فعلوا بها ما فعلوه في غيرها، فقتلوا وعذبوا وسَبَوا ونهبوا وأحرقوا البلاد.
ثم اتجهوا من "مازندران" إلى الري (مدينة إيرانية كبيرة)، وسبحان الله !! وكأن الله عز وجل قد أراد أن يتم الذلة لمحمد بن خوارزم شاه حتى بعد وفاته، فإن التتار وهم في طريقهم من مازندران إلى الري وجدوا في طريقهم والدته ونساءه..
ومعهم الأموال الغزيرة والذخائر النفيسة التي لم يُسمَع بمثلها، فأخذوا كل ذلك سبيًا وغنيمة، وأرسلوه من فورهم إلى جنكيز خان المتمركز في سمرقند آنذاك..
ثم وصل التتار إلى الري فملكوها ونهبوها، وسبوا الحريم واسترقوا الأطفال، وفعلوا الأفعال التي لم يسمع بمثلها، ثم فعلوا مثل ذلك في المدن والقرى المحيطة حتى دخلوا مدينة قزوين (من المدن الإيرانية أيضًا) واقتتلوا مع أهلها في داخل البلد، وقتلوا من أهل قزوين المسلمين ما يزيد على أربعين ألفًا..!!
ولا حول ولا قوة إلا بالله..
اجتياح أذربيجان:
اتجه التتار إلى غرب بحر قزوين حيث إقليم أذربيجان المسلم.. مر التتار في طريقهم على مدينة تبريز (كانت مدينة أذربيجانية في ذلك الوقت بينما هي الآن شمال إيران)، فقرر زعيم أذربيجان "أوزبك بن البهلوان" وكان يستقر في مدينة تبريز أن يصالح التتار على الأموال والثياب والدواب، ولم يفكر مطلقًا في حربهم، لأنه كان لا يفيق من شرب الخمر ليلاً أو نهارًا، ورضي التتار منه بذلك، ولم يدخلوا تبريز لأن الشتاء القارس كان قد حل، وتبريز في منطقة باردة جدًا، فاتجه التتار إلى الساحل الغربي لبحر قزوين، وبدءوا في اجتياح الناحية الشرقية لأذربيجان متجهين ناحية الشمال..
اجتياح أرمينيا وجورجيا:
هذان الإقليمان يقعان في غرب وشمال أذربيجان، وقد اتجهوا إليهما قبل الانتهاء من مدن أذربيجان، لأنهم سمعوا بتجمع قبائل "الكرج" لهم، وقبائل الكرج هي قبائل وثنية ونصرانية تقطن في منطقة جورجيا الروسية، وكان بينهم وبين المسلمين قتال دائم، وقد علموا أن الخطر يقترب منهم فتجمعوا في مدينة تفليس (في جورجيا الآن)، وحدث قتال طويل بينهم وبين التتار انتهى بانتصار التتار، وامتلاك أرمينيا وجورجيا، وقُتِلَ من الكرج ما لا يحصى في هذه الموقعة..
ماذا فعل جنكيز خان في سنة 617هـ بعد مطاردة "محمد بن خوارزم شاه" ؟
بعد أن اطمأن جنكيز خان إلى هروب "محمد بن خوارزم شاه" زعيم البلاد في اتجاه الغرب، وانتقاله من مدينة إلى أخرى هربًا من الفرقة التترية المطاردة له، بدأ جنكيز خان يبسط سيطرته على المناطق المحيطة بسمرقند، وعلى الأقاليم الإسلامية الضخمة الواقعة في جنوب سمرقند وشمالها..
وجد جنكيز خان أن أعظم الأقاليم في هذه المناطق: إقليم خوارزم، وإقليم خراسان..
أما إقليم خراسان فإقليم شاسع به مدن عظيمة كثيرة مثل: بلخ ومرو ونيسابور وهراة وغزنة وغيرها (وهو الآن في شرق إيران وشمال أفغانستان"..
وأما إقليم خوازرم فهو الإقليم الذي كان نواةً للدولة الخوارزمية، واشتهر بالقلاع الحصينة والثروة العددية، والمهارة القتالية، وهو يقع إلى الشمال الغربي من سمرقند ويمر به نهر جيحون (وهو الآن في دولتي أوزبكستان وتركمستان" ولكن جنكيز خان أراد القيام بحرب معنوية تؤثر في نفسيات المسلمين قبل اجتياح هذه الأقاليم العملاقة، فقرر البدء بعمليات إبادة وتدمير تبث الرعب في قلوب المسلمين في الإقليمين الكبيرين خوارزم وخراسان، فأخرج جنكيز خان من جيشه ثلاث فرق:
فرقة لتدمير إقليم "فرغانة" (في أوزبكستان الآن)
وفرقة لتدمير مدينة "ترمذ" (في تركمستان الآن)
وفرقة لتدمير قلعة "كلابة" وهي من أحصن قلاع المسلمين على نهر جيحون.
وقد قامت الفرق الثلاث بدورها التدميري، كما أراد جنكيز خان، فاستولت على كل هذه المناطق، وأعملت فيها القتل والأسر، والسبي، والنهب، والتخريب، والحرق، كما هي عادة التتار، ووصلت الرسالة التترية إلى كل الشعوب المحيطة:
إن التتار لا يرتوون إلا بالدماء ولا يسعدون إلا بالخراب والتدمير، وأنهم لا يهزمون، فعمت الرهبة منهم أرجاء المعمورة، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
وعندما عادت هذه الجيوش من مهمتها القبيحة بدأ جنكيز خان يعد للمهمة الأقبح.. بدأ يعد لاجتياح إقليمي خراسان وخوارزم..
اجتياح خراسان:
1ـ مدينة بلخ وما حولها (شمال أفغانستان الآن):
هذه المدينة تقع جنوب مدينة ترمذ التي دمرها التتار منذ أيام قلائل، ولا شك أن أخبار مدينة ترمذ قد وصلت إليهم، وكان في قلوب أهل هذه البلدة رعب شديد من التتار، وعندما وصلت جيوش التتار إليهم طلبوا منهم الأمان، وعلى غير عادة التتار فقد قبلوا أن يعطوهم الأمان، ولم يتعرضوا لهم بالسلب أو النهب، وكان ذلك مكرًا وخبثًا بأهل بلخ فقط طلب جنكيز خان من أهل بلخ أن يعاونوه في فتح مدينة مسلمة أخرى هي مدينة "مرو" وبالفعل جاء أهل بلخ لمحاربة أهل مرو، والجميع من المسلمين، ولكن الهزيمة النفسية الرهيبة التي كان يعاني منها أهل بلخ نتيجة الأعمال البشعة التي تمت في مدينة (ترمذ) المجاورة جعلتهم ينصاعون للأوامر جنكيز خان، حتى وإن كانوا سيتقلون إخوانهم..!! وبذلك يكون جنكيز خان قد وفَّر قواته لمعارك أخرى، وضرب المسلمين بعضهم ببعض..
2ـ اجتياح الطالقان:
اتجهت فرقة من التتار من سمرقند إلى منطقة الطالقان (شمال شرق أفغانستان بالقرب من طاجيكستان) وقد صعب عليهم فتحها لمناعة حصونها، فأرسلوا إلى جنكيزخان؛ فجاء إليها وحاصرها شهورًا حتى تم فتحها، وقتلوا رجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، ونهبوا أموالها ومتاعها كما كانت عادتهم..
3ـ مأساة مرو:
ومرو مدينة كبيرة جدًا في ذلك الوقت، وتقع الآن في دولة تركمانستان المسلمة، وقد ذهب إليها جيش كبير من التتار على رأسه بعض أولاد جنكيزخان، واستعانوا في هذه الموقعة بأهل بلخ المسلمين كما ذكرنا من قبل، وقد تجمع خارج مدينة مرو جيش من المسلمين يزيد على مائتي ألف رجل، وهو جيش كبير جدًا بقياسات ذلك الزمان، وكانت موقعة رهيبة بين الطرفين على أبواب مرو، وحدثت المأساة العظيمة، ودارت الدائرة على المسلمين، وانطلق التتار يذبحون في الجيش المسلم حتى قتلوا معظمه، وأسروا الباقي، ولم يسلم إلا أقل القليل، ونهبت الأموال والأسلحة والدواب من الجيش..
وقعت الهزيمة المُرَّة بالجيش المسلم، وفُتح الطريق لمدينة مرو ذات الأسوار العظيمة، وكان بها من السكان ما يزيد على سبعمائة ألف مسلم من الرجال والنساء والأطفال..
وحاصر التتار المدينة الكبيرة، وقد دَبَّ الرعب في قلوب أهلها بعد أن فني جيشهم أمام أعينهم، ولم يفتحوا الأبواب للتتار مدة أربعة أيام، وفي اليوم الخامس أرسل قائد جيش التتار (ابن جنكيز خان) رسالة إلى قائد مدينة مرو يقول فيها: "لا تهلك نفسك وأهل البلد، واخرج إلينا نجعلك أمير هذه البلدة ونرحل عنك"..
فصدَّق أمير البلاد ما قاله زعيم التتار، أو أوهم نفسه بالتصديق وخرج إلى قائد التتار، فاستقبله قائد التتار استقبالاً حافلاً، واحترمه وقرَّبه، ثم قال له في خبث: "أَخرجْ لي أصحابك ومقرَّبيك ورؤساء القوم حتى ننظر من يصلح لخدمتنا فنعطيه العطايا، ونقطع له الإقطاعات، ويكون معنا"، فأرسل الأمير المخدوع إلى معاونيه وكبار وزرائه وجنده لحضور الاجتماع المهم مع ابن جنكيز خان شخصيًا، وخرج الوفد الكبير إلى التتار، ولما تمكن التتار منهم قبضوا عليهم جميعًا وقيدوهم بالحبال..
ثم طلبوا منهم أن يكتبوا قائمتين طويلتين:
ـ أما القائمة الأولى: فتضم أسماء كبار التجار وأصحاب الأموال في مدينة مرو.
ـ وأما القائمة الثانية: فتضم أسماء أصحاب الحرف والصناع المهرة، ثم أمر ابن جنكيز خان أن يأتي التتار بأهل البلد أجمعين، فخرجوا جميعًا من البلد حتى لم يبقَ فيها واحد، ثم جاء بكرسي من ذهب قعد عليه ابن جنكيز خان ثم أصدر الأوامر الآتية:
ـ الأمر الأول: أن يأتوا بأمير البلاد وكبار القادة والرؤساء فيُقتَلوا جميعًا أمام عامة أهل البلد !! وبالفعل جاءوا بالوفد الكبير وبدءوا في قتله واحدًا واحدًا بالسيف، والناس ينظرون ويبكون..
ـ الأمر الثاني: إخراج أصحاب الحرف والصناع المهرة, وإرسالهم إلى منغوليا للاستفادة من خبراتهم الصناعية هناك..
ـ الأمر الثالث: إخراج أصحاب الأموال وتعذيبهم حتى يخبروا عن كل مالهم، ففعلوا ذلك، ومنهم من كان يموت من شدة الضرب ولا يجد ما يكفي لافتداء نفسه..
ـ الأمر الرابع: دخول المدينة وتفتيش البيوت بحثًا عن المال والمتاع النفيس، حتى إنهم نبشوا قبر السلطان "سنجر" أملاً في وجود أموال أو ذهبت معه في قبره، واستمر هذا البحث ثلاثة أيام..
ـ الأمر الخامس: أمر ابن جنكيز خان لعنه الله ولعن أباه أن يُقتَل أهل البلاد أجمعون..
وبدأ التتار يقتلون كل سكان مرو.. يقتلون الرجال.. والنساء.. والأطفال.. !!
قالوا: إن المدينة استعصت علينا وقاومت، ومن قاوم فهذا مصيره..
يقول ابن الأثير رحمه الله: "وأمر ابن جنكيز خان بعد أن قتلوا جميعًا أن يقوم التتار بإحصاء القتلى، فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيلٍ، فإنا لله وإنا إليه راجعون"..
4ـ اجتياح نيسابور:
وهي مدينة كبيرة أخرى من مدن إقليم خراسان (وهي تقع الآن في الشمال الشرقي لدولة إيران)، واتجه إليها التتار بعد أن تركوا خلفهم مدينة مرو، وقد خربت تمامًا، وهناك حاصروا مدينة نيسابور لمدة خمسة أيام، ومع أنه كان بالمدينة جمع لا بأس به من الجنود المسلمين، إلا أن أخبار مرو كانت قد وصلت إلى نيسابور، فدَبَّ الرعب والهلع في أوصال المسلمين، وما استطاعوا أن يقاوموا التتار، ودخل التتار المدينة، وأخرجوا كل أهلها إلى الصحراء، وجاء من أخبر ابن جنكيز خان أن بعضًا من سكان مدينة مرو قد سلِم من القتل، وذلك أنهم ضُرِبوا بالسيف ضربات غير قاتلة، وظنهم التتار قد ماتوا فتركوهم؛ ولذا فقد أمر ابن جنكيز خان في مدينة نيسابور أن يقتل كل رجال البلد بلا استثناء، وأن تقطع رؤوسهم لكي يتأكدوا من قتلهم، ثم قام اللعين بسبي كل نساء المسلمين في مدينة نيسابور، وأقاموا في المدينة خمسة عشر يومًا يفتشون الديار عن الأموال والنفائس، ثم تركوا نيسابور بعد ذلك أثرًا بعد عين، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
5ـ اجتياح هراة:
وهي من أحصن البلاد الإسلامية، وكانت مدينة كبيرة جدًا كذلك، وتقع في الشمال الغربي لأفغانستان، وتوجه إليها ابن جنكيز خان بقواته البشعة، ولم تسلم المدينة من المصير الذي قابلته مدينتا مرو ونيسابور، فقُتل فيها كل الرجال، وسُبيت كل النساء، وخُربت المدينة كلها وأحرقت.. وإن كان أميرها وكان يدعى: "ملك خان" قد استطاع الهروب بفرقة من جيشه في اتجاه غزنة في جنوب أفغانستان، وكذا كان الملوك والرؤساء في ذلك الزمن يُوفَّقون إلى الهروب، بينما تسقط شعوبهم في براثن التتار..
وبسقوط هراة يكون إقليم خراسان قد سقط بكامله في أيدي التتار، ولم يُبقوا فيه على مدينة واحدة، وتمت كل هذه الأحداث في عام واحد هو العام السابع عشر بعد الستمائة الهجرة.. وهذا من أعجب الأمور التي مرَّت بالأرض على الإطلاق..!!
اجتياح خوارزم:
وخوارزم هي مركز عائلة خوارزم شاه، وبها تجمُّع ضخم جدًا من المسلمين بأسًا وقوة، وهي تقع الآن على الحدود بين أوزبكستان وتركمانستان، وتقع مباشرة على نهر جيحون، وكانت تمثل للمسلمين قيمة اقتصادية واستراتيجية وسياسة وكبيرة..
ولأهمية هذه البلدة فقد وجه إليها جنكيز أعظم جيوشه وأكبرها، وقد قام هذا الجيش بحصار المدينة لمدة خمسة أشهر كاملة دون أن يستطيع فتحها، فطلبوا المدد من جنكيز خان، فأمدهم بخلق كثير، وزحفوا على البلد زحفًا متتابعًا، وضغطوا عليه من أكثر من موضع حتى استطاعوا أن يحدثوا ثغرة في الأسوار ثم دخلوا إلى المدينة، ودار قتال رهيب بين التتار والمسلمين، وفني من الفريقين عدد كبير جدًا وحلَّت الهزيمة الساحقة بالمسلمين، ودار القتل على أشده فيهم, وبدأ المسلمون في الهروب والاختفاء في السراديب والخنادق والديار؛ فقام التتار بعمل بشع إذ قاموا بهدم سدٍّ ضخم كان مبنيًا على نهر جيحون، فأغرق المدينة بكاملها، ولم يسلم من المدينة أحد ألبتة، فمن نجا من القتل قُتِل تحت الهدم أو أُغرِق بالماء، وأصبحت المدينة العظيمة خرابًا، وتركها التتار، وقد اختفت من على وجه الأرض، وأصبح مكانها ماء نهر جيحون، ومن َمرَّ على المدينة الضخمة بعد ذلك لا يستطيع أن يرى أثرًا لحياة سابقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
وكانت هذه الأحداث الدامية أيضًا في عام 617هـ..
التتار يتوجهون إلى وسط وجنوب أفغانستان:
بتدمير إقليمي خراسان وخوارزم يكون التتار قد سيطروا على المناطق الشمالية ومناطق الوسط من دولة خوارزم الكبرى، ووصلوا في تقدمهم إلى الغرب إلى قريب من نهاية هذه الدولة (على حدود العراق)، ولكنهم لم يقتربوا بعد من جنوب دولة خوارزم، وجنوب دولة خوارزم كان تحت سيطرة "جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه"، وهو ابن الزعيم الخوارزمي الكبير "محمد بن خوارزم شاه" والذي فَرَّ منذ شهور قليلة أمام التتار، وهرب إلى جزيرة ببحر قزوين حيث مات هناك..
وجنوب دولة خوارزم كان يشمل وسط وجنوب أفغانستان وباكستان، وكان يفصل بينه وبين الهند نهر السند، وكان جلال الدين زعيم الجنوب يتخذ من مدينة "غزنة" مقرًا له (مدينة غزنة في أفغانستان الآن وتقع على بعد حوالي مائة وخمسين كم جنوب مدينة كابول الأفغانية، وهي مدينة حصينة تقع في وسط جبال باروباميزوس الأفغانية).
وعندما انتهى جنكيز خان من أمر الزعيم الرئيسي للبلاد "محمد بن خوارزم شاه" وأسقط دولته بدأ يفكر في غزو وسط أفغانستان وجنوبها لقتال الابن "جلال الدين"؛ فوجه إلى "غزنة" جيشًا كثيفًا من التتار..
وجمع "جلال الدين" جيشًا كبيرًا من بلاده، وانضم إليه أحد ملوك الأتراك المسلمين اسمه "سيف الدين بغراق" وكان شجاعًا مقدامًا صاحب رأي ومكيدة في الحروب، وكان معه ثلاثون ألف مقاتل، ثم انضم إليه أيضًا ستون ألفًا من الجنود الخوارزمية الذين فروا من المدن المختلفة في وسط وشمال دولة خوارزم بعد سقوطها، كما انضم إليه أيضًا "ملك خان" أمير مدينة هراة بفرقة من جيشه، وذلك بعد أن أسقط جنكيز خان مدينته، وبذلك بلغ جيش جلال الدين عددًا كبيرًا، ثم خرج جلال الدين بجيشه إلى منطقة بجوار مدينة غزنة تدعى "بلق" وهي منطقة وعرة وسط الجبال العظيمة، وانتظر جيش التتار في هذا المكان الحصين، ثم جاء جيش التتار، ودارت معركة من أشرس المواقع في هذه المنطقة استمرت ثلاثة أيام..
ثم أنزل الله عز وجل نصره على المسلمين، وانهزم التتار للمرة الأولى في بلاد المسلمين، وكَثُرَ فيهم القتل، وفرَّ الباقون منهم إلى ملكهم جنكيز خان، والذي كان يتمركز في "الطالقان" في شمال شرق أفغانستان..
وارتفعت معنويات المسلمين جدًا، فقد وقر في قلوب الكثيرين قبل هذه الموقعة أن التتار لا يُهزمون، ولكن ها هو اتحاد الجيوش الإسلامية في غزنة يؤتي ثماره..
واطمأنَّ جلال الدين إلى جيشه، فأرسل إلى جنكيز خان في الطالقان يدعوه إلى قتال جديد، وشعر جنكيز خان بالقلق لأول مرة، فجهَّز جيشًا أكبر، وأرسله مع أحد أبنائه لقتال المسلمين، وتجهز الجيشان والتقى الجيشان في مدينة "كابول" الأفغانية..
ودارت موقعة كابول الكبيرة، وكان القتال عنيفًا جدًا.. أشد ضراوة من موقعة غزنة.. وثبت المسلمون، وحققوا نصرًا غاليًا على التتار، بل وأنقذوا عشرات الآلاف من الأسرى المسلمين من أيدي التتار..
وفوق ارتفاع المعنويات، وقتل عدد كبير من جنود التتار، وإنقاذ الأسر المسلمين، فقد أخذ المسلمون غنائم كثيرة نفيسة من جيش التتار، ولكن سبحان الله بدلاً من أن تكون هذه نعمة على جيش المسلمين، أصبحت هذه الغنائم نقمة شديدة وهلكة محققة..!!
روى البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... فواللهِ ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسطَ عليكم الدنيا كم بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم"..
لقد كانت قلوب المسلمين في هذه الحقبة من الزمان مريضة بمرض الدنيا العُضَال، إلا من رحم الله عز وجل لقد كانت حروبهم حروبًا مادية قومية.. حروب مصالح وأهواء.. ولم تكن في سبيل الله..
لقد كان انتصارهم مرة وثانية لحب البقاء، والرغبة في الملك، والخوف من الأسر أو القتل.. فكانت لهم جولة أو جولتان، لكن ظهرت خبايا النفوس عند كثرة الأموال والغنائم..
لقد وقع المسلمون في الفتنة..!!
اختلف المسلمون على تقسيم الغنيمة..!!
قام "سيف الدين بغراق" أمير الترك، وقام أمير آخر هو "ملك خان" أمير مدينة هراة.. قام كل منهما يطلب نصيبه في الغنائم.. فحدث الاختلاف.. وارتفعت الأصوات.. ثم بعد ذلك ارتفعت السيوف..!!
وسقط من المسلمين قتلى على أيدي المسلمين، وكان ممن سقط أَخٌ لسيف الدين بغراق، فغضب سيف الدين بغراق وقرر الانسحاب من جيش جلال الدين، ومعه ثلاثون الألف مقاتل الذين كانوا تحت قيادته !! وحدث ارتباك كبير في جيش المسلمين، وحاول جلال الدين أن يحلَّ المشكلة، وأسرع إلى سيف الدين بغراق يرجوه أن يعود إلى صف المسلمين، ولكنَّ سيف الدين بغراق أَصَرَّ على الانسحاب، فانكسر جيش المسلمين انكسارًا هائلاً.. لقد انكسر ماديًا، وكذلك انكسر معنويًا..
وبينما هم كذلك إذ جاء جنكيز خان بنفسه على رأس جيوشه فدَبَّ الرعب والهلع في جيش المسلمين، فقد قلت أعدادهم وتحطمت معنوياتهم، ورأى جلال الدين أن جيشه قد ضعف جدًا.. فماذا فعل ؟!
لقد أخذ جيشه وبدأ يتجه جنوبًا للهروب من جيش جنكيز خان أو على الأقل لتجنب الحرب في هذه الظروف..
ولكن جنكيز خان كان مصرًا على اللقاء فأسرع خلف جلال الدين.. !! وبدأ جلال الدين يفعل مثلما فعل أبوه من قبل..!! لقد بدأ ينتقل من مدينة إلى مدينة متوجهًا إلى الجنوب حتى وصل إلى نهر السند، وهناك دارت معركة رهيبة بين الطرفين بكل معاني الكلمة.. حتى إن المشاهدين لها قالوا: إن كل ما مضى من الحروب كان لعبًا بالنسبة إلى هذا القتال، واستمر اللقاء الدامي ثلاثة أيام متصلة، واستحَرَّ القتل في الفريقين، وكان ممن قتل في صفوف المسلمين الأمير "ملك خان" والذي كان قد تصارع من قبل مع سيف الدين بغراق على الغنائم، وها هو لم يظفر من الدنيا بشيء، بل ها هي الدنيا قد قتلته، ولم يتجاوز لحظة موته بدقيقة واحدة.. ولكن شتَّان بين من يموت وهو ناصر للمسلمين بكل طاقته، ومن يموت وقد تسبب بصراعه في فتنة أدَّت إلى هزيمة مرة..
وفي اليوم الرابع انفصلت الجيوش لكثرة القتل، وبدأ كل طرف يعيد حساباته، ويرتب أوراقه، ويضمد جراحه, ويعد عدته.. وبينما هم في هذه الهدنة المؤقتة إذ جاءت السفن إلى نهر السند؛ فقرر جلال الدين الهروب فيها ومعه خاصته إلى بلاد الهند، وتركوا التتار على الناحية الغربية من نهر السند..
ولكن.. هل ترك المسلمون التتار وحدهم في هذا الأرض ؟
كلا.. إنما تركوهم مع بلاد المسلمين، ومدن المسلمين، وقرى المسلمين تركوهم مع المدنيين دون حماية عسكرية، وجيوش التتار لا تفرق بين مدني وعسكري بالإضافة إلى الحقد الشديد في قلب جنكيز خان نتيجة كثرة القتلى من التتار في الأيام الأخيرة؛ فانقلب جنكيز خان على بلاد المسلمين يصب عليها جام غضبه.. ويفعل بها ما اعتاد التتار أن يفعلوه وأكثر..
وكانت أشد المدن معاناة هي مدينة "غزنة" والتي انتصر عندها المسلمون منذ أيام أو شهور عندما كانوا متحدين، دخل جنكيز خان المدينة الكبيرة عاصمة جلال الدين بن خوارزم؛ فقتل كل رجالها بلا استثناء وسبى كل الحريم بلا استثناء، وأحرق كل الديار بلا استثناء..!! وتركها كما يقول ابن الأثير: خاوية على عروشها، كأن لم تَغْنَ بالأمس..!!
وكان في جملة الذين أمسك بهم جنكيز خان من أهل المدن أطفال جلال الدين بن خوارزم، وقد أمر جنكيز خان بذبحهم جميعًا، وهكذا ذاق جلال الدين من نفس المرارة التي ذاقها الملايين من شعبه..
روى البيهقي بسند صحيح، رواته ثقات إلا أنه من مراسيل أبي قلابة رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كن كما شئت، كما تدين تدان"..
وبذلك حقق جنكيز خان حلمًا غاليًا ما كان يتوقع أن يكون بهذه السهولة، وهذا الحلم هو احتلال "أفغانستان"..!!
وبذلك يكون التتار قد وصلوا من الصين إلى كازاخستان ثم أوزبكستان ثم تركمستان ثم أفغانستان ثم إيران ثم أذربيجان ثم أرمينيا ثم جورجيا وقد اقتربوا جدًا من العراق..
كل هذا في سنة واحدة، في سنة 617هـ..
وفي سنة 618 هـ عاد التتار إلى أذربيجان المسلم من جديد، ودخلوا مدينة "مراغة" المسلمة، ووضعوا السيف في أهلها، فقُتل منهم ما يخرج عن الحدِّ والإحصاء، ونهبوا كل ما صلح لهم وكل ما استطاعوا حمله، أما ما كانوا يعجزون عن حمله فكانوا يحرقونه كله، ولقد كانوا يأتون بالحرير الثمين كأمثال التلال فيضرمون فيه النار..
التهديد بغزو شمال العراق:
وبدأ التتار يفكرون في غزو مدينة "أربيل" في شمال العراق ودب الرعب في مدينة أربيل، وكذلك في مدينة الموصل في غرب أربيل، وفكر بعض أهلها في الجلاء عنها للهروب من طريق التتار، وخشي الخليفة العباسي "الناصر لدين الله" أن يعدل التتار عن مدينة أربيل لطبيعتها الجبلية، فيتجهوا إلى بغدد بدلاً منها، فبدأ يفيق من السبات العميق الذي أصابه في السنوات السابقة، وبدأ يستنفر الناس لملاقاة التتار في أربيل إذا وصلوا إليها، وأُعلِنت حالة الاستنفار العام في كل المدن العراقية، وبدأ جيش الخلافة العباسية في التجهز..
ترى كم من الرجال استطاع الخليفة أن يجمع ؟
لقد جمع الخليفة العباسي "الناصر لدين الله" ثمانمائة رجل فقط!!
ولا ندري كيف سينصر الخليفةُ دينَ الله -كما يوحي بذلك اسمه- بثمانمائة رجل؟!
أين الجيش القوي؟! وأين الحماية للخلافة؟! وأين التربية العسكرية وأين الروح الجهادية؟! لم يكن الناصر لدين الله خليفة، وإنما كان "صورة" خليفة.. أو شبح خليفة..
ولم يستطع قائد الجيش"مظفر الدين" طبعًا أن يلتقي بالتتار بهذا العدد الهزيل.. ولكن انسحب بالجيش، ومع ذلك سبحان الله فقد شعر التتار أن هذه خدعة، وأن هذه هي مقدمة العسكر فليس من المعقول أن جيش الخلافة العباسية المرهوبة لا يزيد عن ثمانمائة جندي فقط.. ولذلك قرروا تجنب المعركة وانسحبوا بجيوشهم..
وانسحاب جيوش التتار يحتاج من إلى وقفة وتحليل.. فقد كان الرعب يملأ التتار من إمكانيات الخلافة العباسية التي كانت ملء سمع وبصر الدنيا، كانت تزهو على غيرها من الأمم بتاريخ طويل، وأمجاد عظيمة، ولا شك أن دولة لقيطة مثل دولة التتار ليس لها على وجه الأرض إلا بضع سنوات ستحسب ألف حساب لدولة هائلة يمتد تاريخها إلى أكثر من خمسمائة سنة؛ ولذا فالتتار كانوا يقدرون إمكانيات العراق بأكثر من الحقيقة بكثير، ومن ثَمَّ فقد آثروا ألا يدخلوا مع الخلافة في صدام مباشر، واستبدلوا بذلك ما يعرف "بحرب الاستنزاف" وذلك عن طريق الحصار الطويل المستمر، وأيضًا عن طريق عقد الأحلاف والاتفاقيات مع الدول والإمارات المجاورة لتسهيل الحرب ضد العراق في الوقت المناسب..
لذلك فقد انسحب التتار بإرادتهم ليطول بذلك عمر العراق عدة سنوات أخرى..
اجتياح همدان وأردويل:
وهما من مدن إيران حاليًا، وقد حاصر التتار همدان ، ثم دار القتال بعد ذلك مع أهلها بعد أن انقطع عنهم الطعام، ووقعت مقتلة عظيمة في الطرفين، لكن في النهاية انتصر التتار، واجتاحوا البلد، وسفكوا دماء أهلها وأحرقوا ديارها، ثم تجاوزوها إلى أردويل فملكوها وقتلوا من فيها وخربوا وأحرقوا..
على أبواب تبريز:
واتجه التتار إلى تبريز المدينة الإيرانية الكبيرة، ولكنهم لم يستطيعوا دخولها لأن أهلها بقيادة "شمس الدين الطغرائي" رفعوا راية الجهاد في سبيل الله، فأُلقِي الرعب في قلوب التتار على الرغم من كثرتهم، وقلة أهل تبريز..
لقد نُصِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر، وكذلك يُنصَر بالرعب كلُّ من سار على طريقه صلى الله عليه سلم..
لقد فعل الجهاد فعله المتوقع.. بل إن القوم لم يجاهدوا، ولكنهم -فقط- عقدوا النية الصادقة، وأعدوا الإعداد المستطاع، فتحقق الوعد الرباني الذي لا خُلْفَ له وهو وقوع الرهبة في قلوب أعداء الأمة.. وهذا درس لا يُنسى..
"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون"(الأنفال : 60)..
فكانت هذه صورة مشرقة في وسط هذا الركام المظلم..
ورحم الله شمس الدين الطغرائي الذي جدَّد الدين في هذه المدينة المسلمة تبريز..
اجتياح بيلقان:
وهي من مدن إيران حاليًا، وللأسف فإنها لم تفعل مثل فعل تبريز، ودخل التتار البلدة في رمضان 618هـ، ووضعوا فيها السيف، فلم يبُقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة، حتى إنهم كما يقول بن الأثير: كانوا يشقون بطون الحبالى ويقتلون الأجنة، وكانوا يرتكبون الفاحشة مع النساء ثم يقتلونهن، ولما فرغوا من البشر في المدينة نهبوا وخرَّبوا وأحرقوا كعادتهم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
على أبواب كنجة:
وسار التتار إلى مدينة كنجة المسلمة، وفعل أهلها مثلما فعل أهل تبريز، وفعل مثلما فعلوا مع أهل تبريز..
لقد أعلن أهل كنجة الجهاد وأعدوا العدة المستطاعة، فما دخل تتري واحد مدينتهم بل تركوها إلى غيرها..
اجتياح داغستان والشيشان:
وتقعان في شمال أذربيجان على ساحل بحر قزوين من ناحية البحر الغربية، وهما من البلاد المسلمة الواقعة تحت الاحتلال الروسي الآن، نسأل الله لهما التحرير الكامل، قد قام التتار كعادتهم بتدمير كل شئ في هذه البلاد، وقتلوا معظم من وجدوه في طريقهم وكانت أشد المدن معاناة من التتار هي مدينة شماخي المسلمة (في داغستان الآن)..
اجتاح الجنوب الغربي من روسيا:
استمر التتار في صعودهم في اتجاه الشمال، وبعد الانتهاء من الشيشان وصلوا إلى حوض نهر الفولجا الروسي، واستمروا في قتال أهل هذه المناطق، وكانوا جميعًا من النصارى، وأثخنوا فيهم القتل، وارتكبوا معهم من الفظائع ما كانوا يرتكبونه مع المسلمين..
وبذلك انتهت سنة 618هـ وقد وصل التتار إلى أرض الروس، وأصبحت كل البلاد ما بين شرق الصين وجنوب غرب روسيا ملكًا لهم..
تقييم الموقف في سنة 619هـ:
في هذه السنة استمرت العمليات التترية في منطقة أرض الروس، وأكد التتار سيطرتهم على المناطق الإسلامية الشاسعة ما بين الصين والعراق، فثبتوا أقدامهم في كل بقاع الدولة الخوارزمية, وهذا يشمل الآن أسماء الدول الآتية من الشرق إلى الغرب:
ـ كازاخستان.
ـ قيرغيزستان.
ـ طاجيكستان.
ـ أوزبكستان.
ـ تركمانستان.
ـ باكستان. (باستثناء المناطق الجنوبية فيها، والمعروفة بإقليم كرمان)..
ـ أفغانستان.
ـ معظم إيران. (باستثناء الحدود الغربية لها مع العراق والتي يسكنها الإسماعيلية.
ـ أذربيجان.
ـ أرمينيا.
ـ جورجيا.
ـ الجنوب الغربي لروسيا.
ظهور جلال الدين بن محمد خوارزم :
لقد ظهر جلال الدين بن محمد خوارزم على مسرح الأحداث بين سنتي 621هـ و622هـ فجأة وكان قد فَرَّ قبل ذلك إلى الهند منذ خمس سنوات (617هـ) ذلك أنه لم يستطع إكمال حياته في الهند، فقد كانت العلاقات أصلاً سيئة مع ملوك لهند، ثم إنه وجد أن التتار قد تركوا منطقة فارس نسبيًا، وأن جنكيز خان قد عاد إلى بلاده لمعالجة بعض الأمور هناك، وترك زعيمًا غيره على جيوش التتار، وأن أخاه غياث الدين قد سيطر على معظم أجزاء فارس..
وجد جلال الدين أن الظروف الآن مواتية للعودة إلى مملكة خوارزم للبحث عن الملك الضائع،ولكنه للأسف لم يدقق النظر، ولم يُشخِّص المرض الذي أصاب الأمة الإسلامية في ذلك الوقت.. ولم يدرك أن الفُرقة والتشتت والاستهانة بدماء المخالفين من المسلمين كانت من الأسباب الرئيسية لهذه الحالة المخزية التي وصلت إليها أمة الإسلام..
لم يدرك جلال الدين هذه الأمور، ومن ثم فإنه بدلاً من أن يبذل مجهودًا لتجميع الأطراف المتناحرة والأقاليم المتصارعة، دخل إلى مملكة خوارزم وهو يجهز نفسه ليكون طرفًا جديدًا في الصراع الإسلامي ـ الإسلامي!!
وبدأ جلال الدين في غزو إقليم فارس من جنوبه إلى الشمال محاربًا أخاه غياث الدين، حتى وصل إلى غرب إيران، وأصبح قريبًا من الخلافة العباسية، وكانت العلاقات القديمة بين مملكة خوارزم والخلافة العباسية متوترة جدًا، ووجد جلال الدين في نفسه قوة، ووجد في الخلافة العباسية ضعفًا فأعلن الحرب على الخلافة العباسية.. (هذا وجيوش التتار قابعة في شرق إيران) ولا عجب فقد كان جُلُّ الزعماء في تلك الآونة مصابين بالحَوَل السياسي، ودخل جلال الدين بجيشه إلى البصرة، وحاصرها لمدة شهرين، ثم تركها واتجه شمالاً ليمر قريبًا من بغداد عاصمة الخلافة العباسية،وخاف الناصر لدين الله الخليفة العباسي على نفسه فحَصَّن المدينة وجهز الجيوش لدفع جلال الدين، ولكن لم يكتف بذلك بل ارتكب فغلاً شنيعًا مقززًا، إذ أنه أرسل إلى التتار يستعين بهم على حرب جلال الدين..
لقد كان الخليفة العباسي الناصر لدين الله كالمستجير من الرمضاء بالنار..
ومع استعانة الخليفة بالتتار إلا أن التتار كانوا مشغولين ببسط سيطرتهم على المناطق الشاسعة التي احتلوها، فلم يحدث بينهم وبين جلال الدين قتال إلا في أواخر سنة 622هـ، واستثمر جلال الدين هذه الفترة في بسط سيطرته على المناطق المحيطة ببغداد، ثم شمال العراق ثم منطقة شمال فارس، وبدأ يدخل في أذربيجان وما حولها من أقاليم إسلامية..
وكانت حروبه حروبًا شرسة مُفسدة، مع أن البلاد المغنومة كلها بلاد إسلامية.. فكان يفعل بهم الأفاعيل من قتل وسبي ونهب وتخريب.. وكأنه تعلم من حروبه مع التتار كيف يقسو قلبه بدلاً من أن يتعلم كيف يرحم الذين عُذِّبوا منذ شهور وسنوات على أيدي التتار..
وبذلك بلغ سلطان جلال الدين من جنوب فارس إلى الشمال الغربي لبحر قزوين، وهي وإن كانت منطقة كبيرة إلا أنها مليئة بالقلاقل والاضطرابات، بالإضافة إلى العداءات التي أورثها جلال الدين قلوب كل الأمراء في الأقاليم المحيطة بسلطانه بمن فيهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وسياسة العداوات والمكائد والاضطرابات هي السياسة التي ورثها جلال الدين عن أبيه محمد بن خوارزم، ولم تأتِ إلا بالويلات على الأمة..
وفي آخر سنة 622هـ توفي الخليفة الظالم الفاسد الناصر لدين الله، بعد أن حكم البلاد سبعة وأربعين عامًا متتالية، وكان قبيح السيرة في رعيته، فقد خرَّب العراق، وظلم أهله، أخذ أموالهم وأملاكهم، وطفَّف لهم في المكاييل، وفرض عليهم الرسوم الجائرة والأحكام الظالمة، وفوق كل ذلك ارتكب الذنب العظيم الذي تصغر بجواره كل ذنوبه وهو مراسلة التتار، ومحاولة التعاون معهم ضد المسلمين..
أحداث سنتي 623 ـ 624هـ:
تولى الظاهر بأمر الله ابن الناصر لدين الله الخلافة العباسية، وكان على النقيض من أبيه تمامًا، فقد كان رجلاً صالحًا، تقيًا أظهر من العدل والإحسان ما لم يَسبق إلا عند القليل، لدرجة أن ابن الأثير قال: "إنه لو قيل: إنه لم يلِ الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثلُه لكان القائل صادقًا"، فرفع الضرائب الباهظة، وأعاد للناس حقوقهم، وأخرج المظلومين من السجون، وتصدَّق على الفقراء، حتى قيل في حقه: إنه كان غريبًا في هذا الزمان الفاسد ولقد قال فيه ابن الأثير -وكان معاصرًا له- كلمة عجيبة، لقد قال: "إني أخاف أن تقصر مدة خلافته؛ لأن زماننا وأهله لا يستحقون خلافته"..
سبحان الله.. لقد صدق حَدْسُ ابن الأثير، وتوفي الخليفة الظاهر بأمر الله سريعًا! ولم يحكم المسلمين إلا تسعة شهور وبضعة أيام فقط، ومع ذلك فكما يذكر الرواة: رخصت الأسعار جدًا في فترة حكمه، وتحسن الاقتصاد في العراق..
وتولى الحكم بعد الظاهر بأمر الله المستنصر بالله، والذي ظل في كرسي الحكم حتى سنة 640هـ، أي حوالي سبعة عشر عامًا..
وفي هذه الأثناء كان جلال الدين مستمرًا في حروبه في المنطقة ليس مع التتار، ولكن مع المسلمين، واستولى على بعض المدن والأقاليم، وكان من أبشع ما فعل هو حصاره لأهل "خلاط" أو "أخلاط" وهي مدينة مسلمة (في شرق تركيا الآن)، فقد قتل منهم خلقًا كثيرًا، وامتدت أيدي الجنود الخوارزميين إلى كل شئ في البلد بالسلب والنهب حتى سبوا الحريم المسلمات..
ثم حدث أمر مهم جدًا ومحوري في سنة 624هـ وهو وفاة القائد التتري المجرم السفاح جنكيز خان عن عمر يناهز اثنتين وسبعين سنة، ملأها بالقتل والذبح وسفك الدماء والسلب والنهب, وبنى خلال فترة حكمه مملكة واسعة من كوريا في الشرق إلى فارس في الغرب.. بُنِيَت هذه المملكة على جماجم البشر، وعلى أشلائهم ودمائهم.. (ومعظمهم من المسلمين !) ولكن اللوم كل اللوم على من وصل إلى حالة من الضعف مكَّنت مثل هذا الفاسد من أن يفعل في بلاد المسلمين ما يشاء..
وبموت جنكيز خان هدأت الأمور نسبيًا في هذه المنطقة، واحتفظ التتار بما ملكوه من بلاد المسلمين إلى وسط إيران تقريبًا بينما كان جلال الدين يبسط سيطرته على المناطق الغربية من إيران والمناطق الغربية من بحر قزوين وكأنَّ كل طرف قد رضي بما يملك, وآثر الاحتفاظ بما يعتقد أنه حق له..
الفترة من 624 هـ إلى 627 هـ:
هذه هي فترة الهدوء النسبي الذي أعقب وفاة جنكيز خان..
أين كان المسلمون في هذه الفترة ؟!
لقد كانوا على عهدهم من الخلاف والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق.. لم يستغل المسلمون مصيبة التتار في زعيمهم الكبير جنكيزخان ليجمعوا صفهم ويحرروا بلادهم، بل شغلوا أنفسهم بحرب بعضهم البعض، وبظلم بعضهم البعض..
فقد تجددت الخلافات بين جلال الدين وأخيه غياث الدين وتفاقمت، حتى تعاون غياث الدين مع أعداء جلال الدين في حروبه..
ليس هذا فقط، بل كانت المنطقة بأسرها تموج بالاضطرابات والفتن، ليس في منطقة العراق وفارس فقط، بل في كل ديار المسلمين، فالحروب بين أمراء الشام ومصر كانت مستمرة، ولم تتحد كلمتهم أبدًا، مع أن معظمهم من نفس العائلة الأيوبية بل وأحيانًا من الإخوة الأشقاء، ونتج عن ذلك أمر مريع في سن 626هـ، وهو تسليم بيت المقدس (الذي حرره صلاح الدين الأيوبي قبل ذلك) إلى الصليبيين صلحًا..!! أي أن المسلمين في الشام اتفقوا على إعطاء بيت المقدس للصليبيين في مقابل أن يترك الصليبيون بعض الإمارات في الشام للمسلمين.
ونعوذ بالله من الضعف بعد القوة، ومن الذلة بعد العزة، ومن الخذلان بعد النصر..
ثم إن جلال الدين استمر في حروبه البشعة في المنطقة، وكان من مما فعل أن حاصر مدينة "خلاط" مرة ثانية بعد أن تمردت عليه, وأطال عليها الحصار حتى اضطر أهل البلد إلى أكل لحوم الخيل والحمير، ثم أكلوا الكلاب والقطط.. بل والفئران..!!
ثم سقطت المدينة في يد جلال الدين، فخربها وأكثر فيها القتل وسبي الحريم، واسترقَّ الأولاد, ثم باع الجميع.. وكما يقول ابن الأثير: "إن هذا لم يُسمَعْ بمثله, لاجَرَمَ أن الله عز وجل لن يمهله !!"..
وعند رؤية مثل هذه الأحداث في كل بلاد المسلمين، ندرك لماذا فعل التتار ذلك بهذه البلاد مع ضخامتها وأعدادها وثرواتها، ولا جرم أن هذه سنة مُطَّرِدة في الكون.. فإنه من كانت هذه حاله فلابد أن يُسَلط عليه طواغيت الأرض, فالله عزوجلَّ لا ينصر إلا من ينصره..
(إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده".. (آل عمران: 160)..
الاجتياح التتري الثاني لأمة الإسلام
أتت سنة 628هـ تحمل هجمة تترية بشعة جديدة على الأمة الإسلامية.. وقد تضافرت عوامل شتى جعلت هذا الاجتياح الجديد على مستوى الاجتياح الأول نفسه الذي حدث سنة 617هـ إلى سنة 620هـ، أو لعله أبشع وأسرع..
من هذه العوامل:
1ـ استقرار ملك التتار في منغوليا بعد وفاة جنكيزخان، فقد تولى قيادة التتار الزعيم الجديد "أوجتاي" وأخذ ينظم أمور مملكته في معقلها بمنغوليا والصين، وذلك سنة 624هـ إلى سنة 627ـ.
بعد أن تم له ذلك بدأ يفكر من جديد في اجتياح العالم الإسلامي واستكمال الحروب بعد ذلك في منطقة روسيا، ومحاولة استكمال الفتوح في داخل أوروبا، ويبدو أن اجتياح الخلافة العباسية ذاتها وإسقاط بغداد لم يكن من أهداف هذه الحملة؛ لأنها تجاوزتها إلى أوروبا، دون الوقوف أمامها كثيرًا..
وذلك إما لشدة حصانتها وكثافة سكانها، وإما لتجنب إثارة كل المسلمين في العراق والشام ومصر إذا أُسقِطت الخلافة العباسية، والتي كانت تمثل رمزا مهمًا للمسلمين على ضعفها.. فأراد التتار أن يجعلوها الخطوة الأخيرة في فتوحاتهم.. وهذا هو عين الذكاء..
كلف الخاقان الكبير "أوجتاي" أحد أبرز قادته بالقيام بمهمة الاجتياح التتري الثاني، وهو القائد "شورماجان" والذي جمع جيشًا هائلاً من التتر، وتقدم صوب العالم الإسلامي من جديد..
2ـ شهد هذا العام أيضًا 628هـ استمرار حالة الفرقة البشعة التي كانت في الأمة الإسلامية، واهتمام كل زعيم بحدود مملكته، وإن صَغُرَت، وحتى إن بعض الممالك الإسلامية لم تكن إلا مدينة واحدة وما حولها من القرى، ولم يكتفِ الزعماء المسلمون بالفرقة بل كانوا يتصارعون فيما بينهم، ويكيد بعضهم لبعض، ولم يكن أحدهم يأمن أخاه مطلقًا، ولم تكن فكرة الوحدة مطروحة أصلاً..
3ـ حملت هذه السنة ـ أيضًا ـ النهاية المأساوية الفاضحة لجلال الدين بن خوارزم شاه..
4ـ نتيجة العوامل السابقة، ونتيجة سوء التربية، وغياب الفهم الصحيح للإسلام، والتمسك بالدنيا إلى أقصى درجة وعدم وضوح الرؤية عند الناس.. فعادوا لا يعلمون العدو من الصديق، ونتيجة الحروب التترية السابقة، والتاريخ الأسود في كل مدينة وقرية مر عليها التتار.. نتيجة كل هذه العوامل فقد دبَّت الهزيمة النفسية الرهيبة داخل قلوب المسلمين، فما استطاعوا أن يحملوا سيفًا، ولا أن يركبوا خيلاً، بل ذهب عن أذهانهم أصلاً التفكير في المقاومة.. وهذا ولا شك سهَّل جدًا من مهمة التتار الذين وجدوا أبوابًا مفتوحة، ورقابًا جاهزة للقطع..!!
يروي ابن الأثير في الكامل في أحداث سنة 628هـ بعض الصور التي استمع إليها بأذنه من بعض الذين كتبت لهم نجاة أثناء حملات التتار على المدن الإسلامية فيقول:
كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس؛ فيبدأ بقتلهم واحدًا تلوَ الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو دفاع..!!
أخذ تتري رجلاً من المسلمين، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفًا ثم قتله..
وكان هذا وضع المسلمين في ذلك الوقت.. هزيمة نفسية مُرَّة.. واجتياح تتري رهيب..
ماذا فعل شورماجان بعد موت جلال الدين؟
لقد ضم شورماجان شمال إقليم فارس (شمال إيران حاليًا) إلى الإمبراطورية التترية، وذلك في سنة 629هـ، ثم زحف بعد ذلك على إقليم أذربيجان فضمه إلى أملاكه..
وبتلك الانتصارات التترية، إلى جانب موت جلال الدين، اكتمل سقوط إقليم فارس كله في يد التتار باستثناء الشريط الغربي الضيق الذي تسيطر عليه طائفة الإسماعيلية الشيعية..
ثم بدا لشورماجان أن يستقر في هذه المناطق ولا يُكمل زحفه إلا بعد ترسيخ قدمه، وتثبيت جيشه، ودراسة المناطق المحيطة.. وما إلى ذلك من أمور تدعم السلطان التتري في هذه المنطقة..
ظل شورماجان يُرسِّخ حكم التتر في هذه المناطق لمدة خمس سنوات كاملة من سنة 629هـ، إلى سنة 634هـ، وأثناء هذه السنوات الخمس لم تخرج عليه ثورة مسلمة!! ولم يتحرك لقتاله جيش مسلم!! مع أن جيوش المسلمين تملأ المناطق المجاورة لفارس وأذربيجان، وذلك في العراق والموصل ومصر والحجاز وغيرها..
لكن الكل كان يشعر أن هذا الأمر يُهم أهل فارس وأذربيجان وليس مصيبة عامة على عموم المسلمين..!!
الاجتياح التتري في الفترة من سنة 634هـ إلى 649هـ:
بعد هذه السنوات الخمس في إقليمي فارس وأذربيجان بدأ شورماجان في سنة 634هـ في الالتفاف حول بحر قزوين من ناحية الغرب لينطلق شمالاً لاستكمال فتوحاته، وبسرعة استطاع أن يسيطر على أقاليم أرمينيا وجورجيا (مملكة الكرج النصرانية) والشيشان وداغستان.
ثم بدأ جيش آخر من جيوش التتار بزعامة "باتو بن جاجي" في قيادة الحملات التترية شمال بحر قزوين, وذلك في السنة نفسها 634هـ وأخذ في قمع القبائل التركية النازلة في حوض نهو الفولجا، ثم 635هـ، وخلال عامين فقط (635هـ ـ 636هـ) احتل التتار دولة روسيا بكاملها..
وفي سنة 639هـ مات الخاقان الكبير ملك التتار "أوجتاي" فاضطر الأمير "باتو بن جاجي" أن يوقف الحملات، ويستخلف أحد قواده على المناطق المفتوحة، ويعود إلى "قراقورم" عاصمة التتار في منغوليا للمشاركة في اختيار الخاقان التتري الجديد..
وقفة للتحليل (سنة 639هـ وما بعدها):
أولاً: وصلت حدود دولة التتار في هذه السنة من كوريا شرقًا إلى بولندا غربًا، ومن سيبيريا شمالاً إلى بحر الصين جنوبًا وهو اتساع رهيب في وقت محدود.. وأصبحت قوة التتار في ذلك الوقت هي القوة الأولى في العالم بلا منازع..
ثانيًا: تولى قيادة التتار بعد "أوجتاي" ابنه "كيوك بن أوجتاي" وقد كان لهذا الخاقان الجديد الرأي في تثبيت الأقدام في البلاد المفتوحة بدلاً من إضافة بلاد جديدة قد لا يقوى التتار على حفظ النظام فيها، والسيطرة على شعوبها وجيوشها, ومن ثم فقد توقفت الفتوحات التترية في عهد هذا الخاقان, وإن ظل التتار يحافظون على أملاكهم الواسعة.
ثالثًا: ابتلع التتار في فتوحاتهم السابقة النصف الشرقي للأمة الإسلامية, وضموا معظم الأقاليم الإسلامية في آسيا إلى دولتهم، وقضوا على كل مظاهر الحضارة في هذه المناطق، كما قضوا تمامًا على أي نوع من المقاومة في هذه المناطق الواسعة, وظل الوضع كذلك لسنوات كثيرة لاحقة..
رابعًا: ظَلَّ القسم الأوسط من العالم الإسلامي والذي يبدأ من العراق إلى مصر مُفرَّقًا مشتتًا لا يكتفي فقط بمشاهدة الجيوش التترية وهي تسقط معظم ممالك العالم في وقتهم، وإنما انشغل أهله بالصراعات الداخلية فيما بينهم، وازداد تفككهم بصورة كبيرة..
كذلك كان القسم الغربي من العالم الإسلامي الذي يضم ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وغرب إفريقيا.. كان هذا القسم مفككًا تمامًا بعد سقوط دولة الموحدين..
خامسًا: ذاق الأوروبيون النصارى من ويلات التتار كما ذاق المسلمون من قبل، وذُبِحَ منهم الآلاف أو الملايين، ودُمرت كنائسهم، وأُحرقت مدنهم، بل هُدِّدوا تهديدًا حقيقيًا أن يصل التتار إلى عقر دار الكاثوليكية النصرانية في روما..
سادسًا: ومع أن النصارى رأوا أفعال التتار إلا أن ملوك النصارى في أوروبا الغربية (فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا) كانوا يرون أن هذه مرحلة مؤقتة سوف تقف عند فترة من الفترات، أما حروب النصارى الصليبيين ضد المسلمين فهي حروب دائمة لا تنتهي.. ومن ثَمَّ فقد كان ملوك الصليبيين على استعداد كامل للتعاون مع التتار رغم كل الأعداد الهائلة التي قُتِلت منهم بدلاً من التعاون مع المسلمين..
أما لماذا يعتقد الصليبيون أن حرب المسلمين دائمة, وحرب التتار مؤقتة؟ فإن ذلك يرجع إلى أن حروب الصليبيين مع المسلمين هي حروب عقيدة، والعَدَاء بين المسلمين والصليبيين يقوم على أساس ديني، والصراع بينهما أبديٌّ، والنصارى لن يُنهوا القتال إلا بدخول إحدى الطائفتين في دين الأخرى، كما يقول الله عز وجل في كتابه: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" (البقرة: 120)..
سابعًا: أخذت عقائد الجيش التتري في التغيير بعد الحملات التي وجهوها إلى أوروبا، فقد تزوج عدد كبير من قادة المغول من فتيات نصرانيات، وبذلك بدأت الديانة النصرانية تتغلغل نسبيًا في البلاط المغولي، وهذا ساعد أكثر على إمكانية التعاون بين التتار والصليبيين..
ثامنًا: استمرت الحروب الصليبية الأوروبية على المسلمين في مصر والشام، وكانت مصر والشام في ذلك الوقت تحت حكم الأيوبيين، ولكن كانت هذه هي آخر أيام الأيوبيين، وقد دار الصراع بينهم وبين بعضهم، وأصبح المسلمون بين شِقَّي الرَّحَى: بين التتار من ناحية، والصليبيين من ناحية أخرى..
تاسعًا: في سنة 640هـ توفي المستنصر بالله الخليفة العباسي، وتولى الخلافة ابنه المستعصم بالله، وكان يبلغ من العمر آنذاك ثلاثين عامًا، وهو وإن كان قد اشتُهِر بكثرة تلاوة القرآن، وبالنظر في التفسير والفقه، وكثرة أعمال الخير، إلا أنه لم يكن يفقه كثيرًا، ولا قليلاً في السياسة!! ولم يكن له علم بالرجال، فاتخذ بطانة فاسدة، وازداد ضعف الخلافة عما كانت عليه، فهو آخر الخلفاء العباسيين, وهو الذي ستسقط بغداد في عهده بعد ذلك..
عاشرًا: لم يبقَ فاصل بين التتار والخلافة العباسية في العراق إلا شريط ضيق في غرب إقليم فارس (غرب إيران الآن).. وهو على قدر من الأهمية وإن كان ضيقًا إذ كانت تعيش فيه طائفة الإسماعيلية الخطرة، وكانوا أهل حرب وقتال، ولهم قلاع وحصون، فضلاً عن طبيعة المكان الجبلية، وكانوا على خلاف دائم مع الخلافة العباسية، وكراهية شديدة للمذهب السني، وكانوا يتعاونون مع أعداء الإسلام كثيرًا، فَمَرَّةً يراسلون التتار، ومرة يراسلون الصليبيين، وكان التتار يدركون وجودهم، ومع ذلك فهم لا يطمئنون لهم، فالتتار ما كانوا يرغبون في بقاء قوة ذات قيمة في أي مكان على ظهر الأرض..
بين 639 هـ و 649 هـ:
بعد تولية "كيوك بن أوجتاي" خاقان التتار الجديد قرر أن يوقف الحملات التوسعية، ويتفرغ لتثبيت الأقدام في أجزاء مملكته المختلفة، وقد ظل "كيوك" يحكم من سنة 639هـ إلى سنة 646هـ، وفي هذه السنوات السبع لم يدخل التتار بلادًا جديدة إلا فيما ندر، وكانت فترة هدوء نسبي في المناطق المجاورة لمملكة التتار، وإن كانت المناطق المنكوبة بالتتار ما زالت تعاني من ظلم وبشاعة الاحتلال التتري..
وبعد وفاة خاقان التتار "كيوك" تولَّت أرملته حكم التتار، وذلك ابتداءً من سنة646هـ ولمدة ثلاث سنوات..
ولم يستطع التتار قبول أرملة "كيوك" ملكة عليهم، ومن ثم اجتمع المجلس الوطني للتتار والمسمى "بالقوريلتاي" وذلك في سنة 649هـ، وقرروا اختيار خاقان جديد للتتار، وكان اختيار منكوخان زعيمًا لمملكة التتار بداية تحول كبير في سياسة التتار، وبداية تغيير جذري في المناطق المحيطة بالتتار، فقد كانت لديه سياسة توسعية شبيهة بسياسة جنكيزخان المؤسس الأول لدولة التتار، وشبيهة أيضًا بسياسة أوجتاي الذي فُتِحَت أوروبا في عهده، ومن ثَمَّ بدأ "منكو خان" يفكر من جديد في إسقاط الخلافة العباسية، وما بعدها من بلاد المسلمين..
الفرقة والتشتت والتشرذم بين ممالك المسلمين:
يقول المولى تبارك وتعالى في كتابه الكريم: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين" {الأنفال : 46}..
لقد جعل الله عزوجل الفشل قرينًا للتنازع.. والمسلمون كانوا في تنازع مستمر، وخلاف دائم، وعندما كانت تحدث بعض فترات الهدنة في الحروب مع التتار، كان المسلمون يُغيرون على بعضهم، ويأسرون بعضهم، ويقتلون بعضهم..!! وقد عُلِمَ يقينًا أن من كانت هذه صفتهم، فلا يكتب لهم النصر أبدًا..
روى الإمام مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ".... وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها ـ أو قال: من بين أقطارها ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا" ..
فالمسلمون كانوا في تلك الآونة يهلك بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا.. فلا عجب إن غلب عليهم جيش التتار أو غير التتار..
الترف:
من المعلوم أن الترف انصراف عن المهمة الرئيسية للإنسان واتجاه نحو الملذات، وجمع المال، والتفاخر بالملك، وما ذُكِر أبدًا ترفٌ بخير، وكثرة المال ابتلاء من الله، فإما أن يحسن الإنسان بإنفاقه وصرفه في وجوه الخير، وطاعة الله، وإما في غير ما أمر الله، وقد ذُكر الترف في ثمانية مواضع في كتاب الله، تنصب كلها على الكافرين، والمجرمين، والفاسقين..
يقول الله تعالى: [فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين] {هود : 116}.
[وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرنها تدميرًا] {الإسراء : 16}..
[لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون] ]{الأنبياء: 13}.
[وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون] (المؤمنون : 33)..
[حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجئرون] (المؤمنون : 64)..
[وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون].](سبأ : 34)..
[وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون].. (الزخرف : 23)..
[وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين].. (الواقعة : 41ـ45)..
ومآل الترف إلى الفساد، وضياع السلطة وانهيار الدولة، وزوال الأمة، وقد زال الأمويون عندما أصابهم الترف، ودالت دولة بني العباس عندما حَلَّ فيها الترف، وسقطت الأندلس بيد النصارى، وضاعت نهائيًا بعد أن انصرف السكان إلى الترف..(2)
ترك الجهاد في سبيل الله:
وكنتيجة طبيعية للانغماس في الدنيا، والترف الزائد عن الحد ترك المسلمون الجهاد، فلم يفقه المسلمون أيام التتار ـ كما لم يفقه كثير من المسلمين في زماننا الآن ـ أن السبيل الأساسي لاستعادة حقوق المسلمين المنهوبة هو الجهاد..
روى أبو داود وأحمد رحمه الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تبايعتم بالعينة (نوع من الربا)، وأخذتم أذناب البقر (العمل في الرعي المواشي)، ورضيتم بالزرع (أي رضيتم بالاشتغال بالزراعة، والمقصود عملتم في أعمال الدنيا أيًّا كانت في وقت الجهاد المتعين)، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"..
لقد عمل أهل بغداد في الزراعة والتجارة والكتابة والصناعة بل وفي العلم والتعلم، وتركوا الجهاد في سبيل الله، فكان النتيجة الذل، وسقوط بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله بطريقة مخزية ما حدثت مع خليفة قبله، وما سمعنا بها مع أي من ملوك أو أمراء الأرض.. مسلمين أو غير مسلمين.. فقد أمر هولاكو أن يُقتَلَ الخليفة العباسي المستعصم بالله رفسًا بالأقدام..!!
وبالفعل وُضِع الخليفة العباسي على الأرض ، وبدأ التتار يرفسونه بأقدامهم، حتى فارقت روحه جسده..
إهمال الإعداد المادي للحروب:
لقد اجتهد التتار في إعداد كل ما يمكنهم من النصر، سواء في ذلك الجنود أو السلاح أو تجهيز الطرق أو وضع الخطة أو الاهتمام بالأحلاف أو الحرب النفسية والخطط البديلة..
لقد كان إعدادًا متميزًا حقًا..
كل ذلك بينما كان المسلمون يعيشون في وادٍ آخر..!!
أُهمِلَت الجيوش الإسلامية وانحدر مستواها، ولم يهتم حاكم بتحديث سلاحه أو تدريب جنده.. لم توضع الخطة المناسبة ولم توجد المخابرات الدقيقة.. لقد تهاون المسلمون جدًا في إعدادهم، ورُتبت أولوياتهم بصورة مخزية، فبينما كانت الملايين تنفق على القصور وعلى الرخام وعلى الحدائق لم يُنفق شيء على الإعداد العسكري والعلمي والاقتصادي للبلاد وبينما قل ظهور النماذج المتفوقة في المجالات العلمية والقيادية والإدارية كثر ظهور المطربين والمطربات، والراقصين والراقصات، واللاهين واللاهيات!!
ولابد أن تهزم أمة كان إعدادها بهذه الصورة.. فأُمَّة الإسلام بغير إعداد لا تقوم..وليس معنى أن يرتبط الناس بربهم ويعتمدوا عليه أن يهملوا المقومات المادية، والتجهيز البشري.. لابد أن يفقه المسلمون هذا الدرس جيدًا..
الخطأ الذي ارتكبه محمد بن خوارزم شاه في قطع العلاقات بينه وبين الأقطار الإسلامية:
يقول ابن الأثير رحمه الله: "وكان محمد بن خوارزم شاه قد استولى على البلاد، وقتل ملوكها، وأفناهم، وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها، فلما انهزم من التتار لم يبق في البلاد من يمنعهم، ولا من يحميها"..
في هذا النص تفسير واضح جلي لمدى المأساة التي كان يعيشها المسلمون في ذلك الوقت.. لقد كان محمد بن خوارزم شاه جيدًا في ذاته في إدارته، لكنه قطع كل العلاقات بينه وبين من حوله من الأقطار الإسلامية، لم يتعاون معها أبدًا، بل على العكس قاتلها الواحدة تلو الأخرى.. وكان يقتل ملوك هذه الأقطار ويضمها إلى مملكته، ولا شك أن هذا خلف أحقادًا كبيرة في قلوب سكان هذه البلاد، وهذا ليس من الحكمة في شيء انظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يفتح البلاد، كان يولي زعماء هذه البلاد عليها ويحفظ لهم مكانتهم، ويُبقي لهم ملكهم، فيضمن بذلك ولاءهم وحب الناس له، فأبقى على حكم البحرين ملكها المنذر بن ساوى، وأبقى على حكم عمان ملكيها: جيفر وعباد، بل أبقى على اليمن واليها باذان بن سامان الفارسي عندما أسلم، وهكذا..
هذه سياسة وحكمة في آنٍ واحد معًا، هذا مَزْج جميل بين الحزم بين الحب.. هذا أسلوب راقٍ في الإدارة..
أما هنا في قصتنا فقد افتقد الزعيم محمد بن خوارزم شاه هذا الجمع الحكيم بين الحب والحزم.. وأصبح حاكمًا بقوته لا بحب الناس له، فلما احتاج إلى الناس لم يجدهم، ولما احتاج إلى الأعوان افتقر إليهم.. فلم تكن الصراعات بين الخلافة العباسية والدولة الخوارزمية فقط، بل قامت الدولة الخوارزمية نفسها على صراعات داخلية وخارجية، ومكائد كثيرة، ومؤامرات عديدة فلم تتوحد القلوب في هذه البلاد، ومن ثم لم تتوحد الصفوف ولم يحدث النصر.. وما كان النصر أن يتحقق والأمة على هذا النحو..
[إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص].. {الصف: 4}..
وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول فيما رواه النسائي وأحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه: "عليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية".. أي يأكل الغنم القاصية..
حب الدنيا وكراهية الموت:
روى أبو داود عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله علي وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل.. ولينزعنَّ اللهُ من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ اللهُ في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت"..
لقد سيطر حب الدنيا على القلوب، وكره المسلمون الموت في سبيل الله، فأصبحوا كالغثاء الذي يحمله السيل.. إذا توجه السيل شرقًا شرَّقوا معه، وإذا توجه السيل غربًا غرَّبوا معه، لا رأي ولا هدف ولا طموح، ونزع الله عز وجل مهابة المسلمين من قلوب التتار، فما عادوا يكترثون بالأعداد الغفيرة، وألقى في قلوب المسلمين الوهن والضعف والخور حتى كانت أقدام المائة من المسلمين لا تقوى على حملهم إذا واجهوا تتريًا واحدًا!! ولا حول ولا قوة إلا بالله..
موالاة أعداء الأمة:
لقد سقط الكثير من زعماء المسلمين أيام التتار في مستنقع الموالاة لأعداء الأمة، وكان منطقهم في ذلك أنهم يجنبون أنفسهم أساسًا، ثم يجنبون شعوبهم بعد ذلك ويلات الحروب.. فارتكبوا خطأ شرعيًا وعقليًا شنيعًا.. بل ارتكبوا أخطاءً مركبة.. فتجنُّب الجهاد مع الحاجة إليه خطأ، وتربية الشعب على الخنوع لأعدائه خطأ آخر، وموالاة العدو واعتباره صديقًا, والثقة في كلامه وفي عهوده خطأ ثالث..
وربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه بوضوح: [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين] {المائدة : 51}..
وهذا التحذير خطير من رب العالمين..وكم هو أحمق أو ضعيف الإيمان من يستمع إلى هذا التحذير ثم لا يلتفت إليه..
لقد أسرع أمراء المسلمين بعقد الاتفاقيات المهينة والمخزية مع التتار لتسهيل ضرب بلاد المسلمين..
ولم يعقد منكوخان هذه المعاهدات بنفسه؛ لأنه استهان جدًا بهؤلاء الأمراء، فقد كان كل واحد منهم لا يملك سوى بضعة كيلومترات، ومع ذلك يسمِّي نفسه أميرًا، بل ويلقب نفسه بالألقاب الفاخرة مثل: المعظم والأشرف والعزيز والسعيد وغير ذلك..
وكَّل منكوخان أخاه هولاكو في عقد هذه الاتفاقيات المخزية.. فجاء أمراء المسلمين الضعفاء يسارعون في التتار الأقوياء.. [فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين] {المائدة: 52}..
فجاء إلى هولاكو بدرُ الدين لؤلؤ، أمير الموصل ليتحالف معه.
وجاء سلطانا السلاجقة وهما: كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع ليتحالفا أيضًا مع هولاكو، وكانا في مكان حساس جدًا، فهما في شمال العراق (تركيا الآن) وتحالفهما يؤدي إلى حصار العراق من الشمال، وقد كان أسلوب كيكاوس الثاني في التزلف إلى التتار مخزيًا إلى الدرجة التي صدمت التتار أنفسهم!!
ورضخ أيضًَا الناصر يوسف أمير حلب ودمشق، ومع كونه حفيد الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله بل شبيهه في الاسم واللقب.. إلا أنه لم يكن يشبهه في شيء من الأخلاق أو الروح، بل كان مَهِينًا إلى الدرجة التي أرسل فيها ابنه العزيز لا ليقدم إلى هولاكو فروض الطاعة فقط، بل ليبقى معه في جيشه كأحد أمرائه..!!
وكذلك جاء الأشرف الأيوبي أمير حمص ليقدم ولاءه لزعيم التتار..
لقد كانت هذه التحالفات في منتهى الخطورة.. فهي بالإضافة إلى مهانتها وحقارتها قد زادت جدًا من قوة التتار الذين أصبحوا يحاصرون العراق من كل مكان، ويعرفون أخبار البلاد من داخلها، وفوق ذلك فإن هذه التحالفات أدت إلى إحباط شديد عند الشعوب التي رأت حاكمها على هذه الصورة المخزية؛ فضعفت الهمم، وفترت العزائم، وانعدمت الثقة في القادة، ومن ثَمَّ لم يعد لهم طاقة بالوقوف في وجه التتار..
لقد كانت هذه الاتفاقيات جريمة بكل المقاييس..!!
قيام دولة المماليك وإشراقة أمل:
بعد سقوط دمشق في أيدي التتار في أواخر صفر سنة 658 هـ , وذلك بعد سنتين تماما من سقوط بغداد , قرر "كتبغا " أن يحتل فلسطين, وباحتلالها يكون التتار قد أسقطوا العراق بكامله ,وأجزاء كبيرة من تركيا , وأسقطوا أيضا سوريا بكاملها وكذلك لبنان وفلسطين , وقد حدث كل ذلك في عامين فقط ووصل التتار في فلسطين إلى غزة , وأصبحوا على مسافة تقل عن خمسة وثلاثين كيلو مترا فقط من سيناء , وبات معلوما للجميع أن الخطوة التالية المباشرة للتتار هي احتلال مصر.
وهذا أمر لا يحتاج إلى كبير ذكاء!!.. فالمتتبع لخط سير التتار سيدرك على وجه اليقين أن مصر ستكون هدفاً رئيسياً لهم، وذلك لعدة أسباب منها:
ـ أولاً: سياسة التتار التوسعية واضحة، وهم لا ينتهون من بلد إلا ويبحثون عن الذي يليه، ومصر هي التي تلي فلسطين مباشرة..
ـ ثانياً: لم يبقَ في العالم الإسلامي بأسره قوة تستطيع أن تهدد أمن التتار إلا مصر، فقد سقطت كل الممالك والحصون والمدن الإسلامية تقريباً، وبقيت هذه المحطة الأخيرة..
ـ ثالثاً: مصر ذات موقع استراتيجي في غاية الأهمية، فهي تتوسط العالم القديم، وخطوط التجارة عبر مصر لا تخفى على أحد..
ـ رابعاً: مصر بوابة أفريقيا، ولو سقطت مصر لفتح التتار شمال أفريقيا بكامله، وشمال أفريقيا لم يكن يمثل أي قوة في ذلك الوقت، لأن وصول التتار إلى الشام كان متزامناً مع سقوط دولة الموحدين بالمغرب سقوطاً كاملاً، وتفكك الشمال الأفريقي المسلم إلى ممالك متعددة صغيرة، ولو سقطت مصر فلا شك أن كل هذه الممالك ستسقط بأقل مجهود..
ـ خامساً: الكثافة السكانية الكبيرة في مصر، فقد كان سكانها يبلغون أضعاف سكان المناطق الإسلامية الأخرى..
ـ سادساً: الحمية الدينية والصحوة الإسلامية عند أهل مصر عالية.. بل عالية جداً.. ويخشى التتار أنه لو تولى أحد الصالحين المجاهدين قيادة هذا البلد كثيف العدد، شديد الحمية، المحب للإسلام، والغيور على حرمات الدين، أن تتغير الأوضاع، وتتبدل الأحوال، ويهتز وضع التتار في المنطقة بأسرها..
لهذه الأسباب ـ وقد يكون لغيرها أيضاً ـ كان التتار يعدون العدة للانتقال من فلسطين إلى مصر، ومع متابعة سرعة انتقال التتار من بلد إلى بلد، فإن المراقبين للأحداث لابد أن يدركوا أن تحرك التتار إلى مصر سيكون قريباً، بل قريباً جداً، حتى لا يعطي التتار الفرصة لمصر للتجهز للحرب الحتمية القادمة..
الاشتراك في:
التعليقات (Atom)