التتار ومصر
"هولاكو" أرسل رسولاً من رجاله وبرفقته أربعون رجلاً من الأتباع إلى قطز يحملون إليه رسالة منه جاء فيها:
"من ملك الملوك شرقًا وغربًا القائدالأعظم: باسمك اللهم، باسط الأرض، ورافع السماء، يعلم الملك المظفر قطزالذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمونبأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز وسائرأمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، إنا نحنجند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكمبجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم.قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى،ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض منالفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرضتؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولامن مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبناكالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لاتنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفُّون عند كلام،وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلةوالهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحقوبما كنتم تفسقون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فمن طلب حربناندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لناوعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّرمن أنذر. وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقدسَلَّطَنا عليكم من له الأمور المقدّرة، والأحكام المدبرة، فكبيركم عندناقليل، وعزيزكم عندنا ذليل، فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أنتضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزًا، ولاكافيًا ولا حرزًا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقدأنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم،والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملكالأعلى".وكان ذلك في سنة ثمان وخمسين وستمائة هجرية "أوائل سنة 1260م".
فلما سمع قطز ما في هذاالكتاب جمع الأمراء، واتفقوا على قتل رُسُل هولاكو، فقبض عليهم، واعتقلوا،وأمر بإعدامهم فأعدموا توسيطًا-أي:ضربوا بالسيف في وسطهم ليشطروا شطرين -،كل مجموعة منهم أمام باب من أبواب القاهرة، وعُلقت رؤوسهم على باب"زويلة". لقد عقد قطز العزم على حرب التتار، وكان قراره نهائيًا لا رجعةعنه؛ إذ هو المسوغ الوحيد لاستيلائه على السلطة، وتواترت المعلوماتالموثوق بها عن زحف التتار باتجاه مصر، كما علم المصريون باستيلاء التتارعلى سورية وفلسطين، كما وصل إلى القاهرة كمال الدين عمر بن العديم أحدالعلماء الأعلام رسولاً من الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشاميطلب من قطز النجدة على قتال التتار.
وجمع قطز القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه من أمرالتتار، وأن يؤخذ من الناس ما يستعان به على جهادهم، وحضر أصحاب الرأي فيدار السلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام،
والقاضي بدر الدين السنجاري-قاضي الديار المصرية-، وأفاضوا الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابنعبد السلام، وخلاصة ما قال: "إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب علىالعالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم،بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائص-أي:حزام الرجلوحزام الدابة- المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبهوسلاحه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة، مع بقايا فيأيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا يجوز".
وانفض المجلس على ذلك، ولميتكلم السلطان، وهو الملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك، لعدم معرفتهبالأمور ولصغر سنه، فلهج الناس بخلع السلطان وتولية قطز حتى يقوم بهذاالأمر المهم. فقد علم قطز أنه لا بد من خروجه من مصر على رأس قواتهالعسكرية لقتال التتار، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما يريد، لأن الآراءمغلولة لصغر سن السلطان، ولأن الكلمة مختلفة، فجمع قطز الأمراء والعلماءمن أصحاب الرأي، وعرفهم أن الملك المنصور هذا صبي لا يحسن التدبير في مثلهذا الوقت الصعب، ولا بد من أن يقوم بأمر الملك رجل شهم يطيعه كل أحد،وينتصب للجهاد في التتار، فأجابه الجميع: ليس لها غيرك.
لقد كان الجواب على رسالةهولاكو هو: القتال، ولا شيء غير القتال. وكان هذا القرار متفقًا عليه منالجميع قبل وصول وفد هولاكو، وقبل وصول رسالته إلى القاهرة.
ولم يكن إعدام الوفد إلا حافزًا جديدًا لقطز وقواته على القتال، دون أن يتركوا الباب مفتوحًا لحل آخر غير القتال.
وهذا موقف لقطز في مثل تلكالظروف التي كانت تحيط به، موقف يُحمد عليه، لأنه انتزع آخر أمل من نفوسالمترددين والانهزاميين في احتمال رضوخ قطز إلى مطالب التتار، فقال قطزقولته الحاسمة: "إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعًا إلى القتال، فإذا ظفرنافهو المراد، وإلا فلن نكون مسلمين أمام الخلق".
الحشد
خرج قطز يوم الإثنين الخامسعشر من شعبان سنة 658 هـ - 1260م بجميع عسكر مصر ومن انضم إليهم من عساكرالشام ومن العرب والتركمان وغيرهم من قلعة الجبل في القاهرة، يريد معسكرالصالحية، معسكر مصر الكبير في شرق الدلتا.
وقبل ذلك، وفي اليوم نفسه، أحضر قطز رسل "هولاكو" وأعدمهم، ليضع قواته المسلحة أمام الأمر الواقع: لا مفر من القتال.
ونودي في القاهرة والفُسطاطوسائر أقاليم مصر بالخروج إلى الجهاد، وتقدم قطز إلى جميع الولاة يحثالأجناد للخروج إلى القتال، وسار حتى وصل إلى الصالحية، وتكامل حشد قواته،فجمع الأمراء وكلمهم بالرحيل، فأبوا كلهم عليه وامتنعوا عن الرحيل، فقاللهم: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاةكارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلىبيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين".
وتكلم الأمراء الذين اختارهموحلّفهم مؤيدين له في المسير، فلم يسع البقية غير الموافقة. لقد جمع قطزقادته قبل المسير، وشرح لهم خطورة الموقف، وذكرهم بما وقع من التتار فيالبلاد التي غزوها من شنيع السفك والتخريب، وما ينتظر مصر وأهلها من مصيرمروع إذا انتصر التتار، وحثهم وهو يبكي على بذل أرواحهم في سبيل إنقاذالإسلام والمسلمين من هذا الخطر الداهم، فضج القادة بالبكاء، ووعدوا ألايدخروا وسعًا في سبيل التتار، وإنقاذ مصر والإسلام من شرهم.
ولكن لماذا خاف قادة قطز التتار؟
كان هولاكو في خلق لا يحصيهمإلا الله، ولم يكونوا من حين قدومهم على بلاد المسلمين سنة 616 هـ - 1219ميلقاهم عسكر إلا فلّوه، وكانوا يقتلون الرجال ويسبون النساء ويستاقونالأسرى وينهبون الأموال، لذلك آثر قادة قطز بعد إكمال حشد قواتهم حمايةمصر لا غير، لكثرة عدد التتار واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، لأنالتتار لم يقصدوا إقليمًا إلا فتحوه، ولا عسكرًا إلا هزموه، ولم يبق خارجحكمهم إلا مصر والحجاز واليمن، وقد هرب جماعة من المغاربة الذين كانوابمصر إلى المغرب، لقد كانت المعنويات منهارة،
فلا عجب أن يبذل قطز كل جهدهلرفع معنويات قادته ورجاله خاصة، والشعب المصري عامة، وأن يستحث القادرينعلى حمل السلاح للجهاد بأرواحهم، والقادرين على تقديم الأموال للجهادبأموالهم، وأن يحشد كل طاقاته المادية والمعنوية للحرب، فلا يعلو صوت علىصوت المعركة، ولا يُقبل عذر من أحد قادر على الجهاد بماله وروحه، وقد قدمقطز مثالاً شخصيًا رائعًا في الجهاد بماله وروحه في سبيل الله.
كما أن قطز صمّم على لقاءالتتار خارج مصر، وألا ينتظرهم في مصر للدفاع عنها على الأرض المصرية، حتىيجنب مصر ويلات الحرب أولاً، ويرفع معنويات رجاله ومعنويات المصريينثانيًا، ويوحي للتتار بأنه لا يخافهم فيؤثر ذلك على معنوياتهم ثالثًا،ولأن المدافع لا ينتصر مطلقًا إلا في نطاق ضيق محدود بعكس المهاجم الذييؤدي انتصاره إلى كارثة تحيق بعدوه رابعًا، ولأن الهجوم أنجح وسائل الدفاعخامسًا وأخيرًا.
إن تصميم قطز على قبول المعركة خارج مصر، كان قرارًا عسكريًا فذًا.
المعركة
وخرج قطز من مصر في الجحافلالشامية والمصرية، في شهر رمضان من سنة 658 هـ- 1260م وغادر معسكرالصالحية بجيشه، ووصل مدينه "غزة" والقلوب وجلة، وكان في "غزة" جمع التتاربقيادة "بيدر"، وكان بيدر هذا قد أخبر قائده "كتبغا نوين" الذي كان في سهل"البقاع" بالقرب من مدينة "بعلبك" بزحف جيش قطز، فرد عليه: "قف مكانكوانتظر".
ولكن قطز داهم "بيدر" قبل وصول "كتبغا نوين" فاستعاد غزة من التتار، وأقام بها يومًا واحدًا، ثم غادرها شمالاً باتجاه التتار.
"من ملك الملوك شرقًا وغربًا القائدالأعظم: باسمك اللهم، باسط الأرض، ورافع السماء، يعلم الملك المظفر قطزالذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمونبأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز وسائرأمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، إنا نحنجند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكمبجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم.قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى،ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض منالفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرضتؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولامن مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبناكالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لاتنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفُّون عند كلام،وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلةوالهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحقوبما كنتم تفسقون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فمن طلب حربناندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لناوعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّرمن أنذر. وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقدسَلَّطَنا عليكم من له الأمور المقدّرة، والأحكام المدبرة، فكبيركم عندناقليل، وعزيزكم عندنا ذليل، فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أنتضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزًا، ولاكافيًا ولا حرزًا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقدأنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم،والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملكالأعلى".وكان ذلك في سنة ثمان وخمسين وستمائة هجرية "أوائل سنة 1260م".
فلما سمع قطز ما في هذاالكتاب جمع الأمراء، واتفقوا على قتل رُسُل هولاكو، فقبض عليهم، واعتقلوا،وأمر بإعدامهم فأعدموا توسيطًا-أي:ضربوا بالسيف في وسطهم ليشطروا شطرين -،كل مجموعة منهم أمام باب من أبواب القاهرة، وعُلقت رؤوسهم على باب"زويلة". لقد عقد قطز العزم على حرب التتار، وكان قراره نهائيًا لا رجعةعنه؛ إذ هو المسوغ الوحيد لاستيلائه على السلطة، وتواترت المعلوماتالموثوق بها عن زحف التتار باتجاه مصر، كما علم المصريون باستيلاء التتارعلى سورية وفلسطين، كما وصل إلى القاهرة كمال الدين عمر بن العديم أحدالعلماء الأعلام رسولاً من الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشاميطلب من قطز النجدة على قتال التتار.
وجمع قطز القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه من أمرالتتار، وأن يؤخذ من الناس ما يستعان به على جهادهم، وحضر أصحاب الرأي فيدار السلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام،
والقاضي بدر الدين السنجاري-قاضي الديار المصرية-، وأفاضوا الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابنعبد السلام، وخلاصة ما قال: "إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب علىالعالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم،بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائص-أي:حزام الرجلوحزام الدابة- المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبهوسلاحه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة، مع بقايا فيأيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا يجوز".
وانفض المجلس على ذلك، ولميتكلم السلطان، وهو الملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك، لعدم معرفتهبالأمور ولصغر سنه، فلهج الناس بخلع السلطان وتولية قطز حتى يقوم بهذاالأمر المهم. فقد علم قطز أنه لا بد من خروجه من مصر على رأس قواتهالعسكرية لقتال التتار، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما يريد، لأن الآراءمغلولة لصغر سن السلطان، ولأن الكلمة مختلفة، فجمع قطز الأمراء والعلماءمن أصحاب الرأي، وعرفهم أن الملك المنصور هذا صبي لا يحسن التدبير في مثلهذا الوقت الصعب، ولا بد من أن يقوم بأمر الملك رجل شهم يطيعه كل أحد،وينتصب للجهاد في التتار، فأجابه الجميع: ليس لها غيرك.
لقد كان الجواب على رسالةهولاكو هو: القتال، ولا شيء غير القتال. وكان هذا القرار متفقًا عليه منالجميع قبل وصول وفد هولاكو، وقبل وصول رسالته إلى القاهرة.
ولم يكن إعدام الوفد إلا حافزًا جديدًا لقطز وقواته على القتال، دون أن يتركوا الباب مفتوحًا لحل آخر غير القتال.
وهذا موقف لقطز في مثل تلكالظروف التي كانت تحيط به، موقف يُحمد عليه، لأنه انتزع آخر أمل من نفوسالمترددين والانهزاميين في احتمال رضوخ قطز إلى مطالب التتار، فقال قطزقولته الحاسمة: "إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعًا إلى القتال، فإذا ظفرنافهو المراد، وإلا فلن نكون مسلمين أمام الخلق".
الحشد
خرج قطز يوم الإثنين الخامسعشر من شعبان سنة 658 هـ - 1260م بجميع عسكر مصر ومن انضم إليهم من عساكرالشام ومن العرب والتركمان وغيرهم من قلعة الجبل في القاهرة، يريد معسكرالصالحية، معسكر مصر الكبير في شرق الدلتا.
وقبل ذلك، وفي اليوم نفسه، أحضر قطز رسل "هولاكو" وأعدمهم، ليضع قواته المسلحة أمام الأمر الواقع: لا مفر من القتال.
ونودي في القاهرة والفُسطاطوسائر أقاليم مصر بالخروج إلى الجهاد، وتقدم قطز إلى جميع الولاة يحثالأجناد للخروج إلى القتال، وسار حتى وصل إلى الصالحية، وتكامل حشد قواته،فجمع الأمراء وكلمهم بالرحيل، فأبوا كلهم عليه وامتنعوا عن الرحيل، فقاللهم: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاةكارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلىبيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين".
وتكلم الأمراء الذين اختارهموحلّفهم مؤيدين له في المسير، فلم يسع البقية غير الموافقة. لقد جمع قطزقادته قبل المسير، وشرح لهم خطورة الموقف، وذكرهم بما وقع من التتار فيالبلاد التي غزوها من شنيع السفك والتخريب، وما ينتظر مصر وأهلها من مصيرمروع إذا انتصر التتار، وحثهم وهو يبكي على بذل أرواحهم في سبيل إنقاذالإسلام والمسلمين من هذا الخطر الداهم، فضج القادة بالبكاء، ووعدوا ألايدخروا وسعًا في سبيل التتار، وإنقاذ مصر والإسلام من شرهم.
ولكن لماذا خاف قادة قطز التتار؟
كان هولاكو في خلق لا يحصيهمإلا الله، ولم يكونوا من حين قدومهم على بلاد المسلمين سنة 616 هـ - 1219ميلقاهم عسكر إلا فلّوه، وكانوا يقتلون الرجال ويسبون النساء ويستاقونالأسرى وينهبون الأموال، لذلك آثر قادة قطز بعد إكمال حشد قواتهم حمايةمصر لا غير، لكثرة عدد التتار واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، لأنالتتار لم يقصدوا إقليمًا إلا فتحوه، ولا عسكرًا إلا هزموه، ولم يبق خارجحكمهم إلا مصر والحجاز واليمن، وقد هرب جماعة من المغاربة الذين كانوابمصر إلى المغرب، لقد كانت المعنويات منهارة،
فلا عجب أن يبذل قطز كل جهدهلرفع معنويات قادته ورجاله خاصة، والشعب المصري عامة، وأن يستحث القادرينعلى حمل السلاح للجهاد بأرواحهم، والقادرين على تقديم الأموال للجهادبأموالهم، وأن يحشد كل طاقاته المادية والمعنوية للحرب، فلا يعلو صوت علىصوت المعركة، ولا يُقبل عذر من أحد قادر على الجهاد بماله وروحه، وقد قدمقطز مثالاً شخصيًا رائعًا في الجهاد بماله وروحه في سبيل الله.
كما أن قطز صمّم على لقاءالتتار خارج مصر، وألا ينتظرهم في مصر للدفاع عنها على الأرض المصرية، حتىيجنب مصر ويلات الحرب أولاً، ويرفع معنويات رجاله ومعنويات المصريينثانيًا، ويوحي للتتار بأنه لا يخافهم فيؤثر ذلك على معنوياتهم ثالثًا،ولأن المدافع لا ينتصر مطلقًا إلا في نطاق ضيق محدود بعكس المهاجم الذييؤدي انتصاره إلى كارثة تحيق بعدوه رابعًا، ولأن الهجوم أنجح وسائل الدفاعخامسًا وأخيرًا.
إن تصميم قطز على قبول المعركة خارج مصر، كان قرارًا عسكريًا فذًا.
المعركة
وخرج قطز من مصر في الجحافلالشامية والمصرية، في شهر رمضان من سنة 658 هـ- 1260م وغادر معسكرالصالحية بجيشه، ووصل مدينه "غزة" والقلوب وجلة، وكان في "غزة" جمع التتاربقيادة "بيدر"، وكان بيدر هذا قد أخبر قائده "كتبغا نوين" الذي كان في سهل"البقاع" بالقرب من مدينة "بعلبك" بزحف جيش قطز، فرد عليه: "قف مكانكوانتظر".
ولكن قطز داهم "بيدر" قبل وصول "كتبغا نوين" فاستعاد غزة من التتار، وأقام بها يومًا واحدًا، ثم غادرها شمالاً باتجاه التتار.
[/size]
وكان"كتبغا" مقدم التتار على جيش "هولاكو" لما بلغه خروج قطز، وكان في سهلالبقاع قد عقد مجلسًا استشاريًا، واستشار ذوي الرأي في ذلك، فمنهم من أشاربعدم لقاء جيش قطز في معركة، والانتظار حتى يجيئه مدد من "هولاكو" ليقوىعلى مصاولة جيش المسلمين، ومعنى هذا مشاغلة جيش قطز بالقوات المتيسرة لديهريثما ترده النجدات التي تضمن له النصر، ومنهم من أشار بغير ذلك -قبلالمعركة- اعتمادًا على قوات التتار التي لا تقهر، وهكذا تفرقت الآراء،وكان رأي "كتبغا نوين" قبول المعركة ومواجهة جيش قطز، فتوجه من فورهجنوبًا باتجاه القوات المصرية.
وكان أول الوهن اختلاف الآراء وظهور رأي يحبذ الانسحاب، ورأي يحبذ عدم الانسحاب وقتال قطز.
وكان أول الوهن اختلاف الآراء وظهور رأي يحبذ الانسحاب، ورأي يحبذ عدم الانسحاب وقتال قطز.
[size=16]وبعث قطز طلائع قواته بقيادةالأمير ركن الدين بيبرس البندقداري لمناوشة التتار واختبار قواتهم،واستحصال المعلومات المفصلة عن تنظيمهم وتسليحهم وقيادتهم، فالتقى بيبرسبطلائع التتار في مكان يقع بين "بيسان" و"نابلس" يدعي: "عين جالوت" في"الغور" غور الأردن، وشاغل التتار حتى وافاه قطز على رأس القوات الأصليةمن جيشه، وفي يوم الجمعة 25 رمضان سنة 658هـ- 6 سبتمبر1260م نشبت بينالجيشين المتقابلين معركة حاسمة، وكان التتار يحتلون مرتفعات "عين جالوت"،فانقضوا على جيش قطز تطبيقًا لحرب الصاعقة التي دأب التتار على ممارستهافي حروبهم، تلك الحرب التي تعتمد سرعة الحركة بالفرسان، وكان القتالشديدًا لم يُر مثله، حتى قتل من الجانبين جماعة كثيرة.
وتغلغل التتار عميقًا،واخترقوا ميسرة قطز، فانكسرت تلك الميسرة كسرة شنيعة، ولكن قطز حمل بنفسهفي طائفة من جنده، وأسرع لنجدة الميسرة، حتى استعادت مواقعها.
واستأنف قطز الهجوم المضاد بقوات "القلب" التي كانت بقيادته المباشرة،وكان يتقدم جنوده وهو يصيح: "واإسلاماه.. واإسلاماه.." واقتحم قطز القتال،وباشر بنفسه، وأبلى في ذلك اليوم أعظم البلاء، وكانت قوات "القلب" مؤلفةمن المتطوعين المجاهدين من الذين خرجوا يطلبون الشهادة، ويدافعون عنالإسلام بإيمان، فكان قطز يشجع أصحابه، ويحسّن لهم الموت، ويضرب لهم المثلبما يفعله من إقدام ويبديه من استبسال.
وكان قطز قد أخفى معظم قواتهالنظامية المؤلفة من المماليك في شعب التلال، لتكون كمائن، وبعد أن كربالمجاهدين كرة بعد كرة حتى زعزع جناح التتار، برز المماليك من كمائنهموأداموا زخم الهجوم بشدة وعنف.
وكان قطز أمام جيشه يصرخ:"واإسلاماه.. واإسلاماه.. يا الله انصر عبدك قطز على التتار"، وكان جيشهيتبعه مقتديًا بإقدامه وبسالته، فقتل فرس قطز من تحته، وكاد يعرض للقتللولا أن أسعفه أحد فرسانه، فنزل له عن فرسه.
وسارع قطز إلى قيادة رجالهمتغلغلاً في صفوف أعدائه، حتى ارتبكت صفوف التتار، وشاع أن قائدهم "كتبغانوين" قد قُتل، فولوا الأدبار لا يلوون على شيء.
وكان "كتبغا نوين" يضرب يمينًا وشمالاً غيرة وحمية، وكان يكر علىالمسلمين، فرغَّبه جماعة من أتباعه في الهرب، ولكنه لم يستمع إليهم وقال:"لا مفر من الموت هنا، فالموت مع العزة والشرف خير من الهرب مع الذلوالهوان".
ورغم أن جنوده تركوه وهربوا فقد ظل يقاتل حتى قُتل، وفي رواية أخرى أن جواده كبا به، فأسره المسلمون، والرواية الأولى أصح.
وكانت هناك مزرعة للقصببالقرب من ساحة القتال، فاختفى فيها فوج من التتار، فأمر قطز جنوده أنيضرموا النار في تلك المزرعة، وأحرقوا فوج التتار جميعًا.
وبدأ المسلمون فورًا بمطاردة التتار، كما طاردهم المسلمون الذين لم يكونوامن جيش قطز، حتى دخل قطز دمشق في أواخر شهر رمضان المبارك، فاستقبله أهلهابالابتهاج.
وامتدت المطاردة السريعة إلى قرب مدينة حلب، فلما شعر التتار باقترابالمسلمين منهم تركوا ما كان بأيديهم من أسارى المسلمين، ورموا أولادهم،فتخطفهم الناس، وقاسوا من البلاء ما يستحقونه.
أسباب النصر
[/size]
يجدر بنا أن نتوقف قليلاً لمعرفة أسباب انتصار قطز على التتار.
إن كل الحسابات العسكرية تجعل النصر إلى جانب التتار بدون أدنى شك، ولكنالواقع يناقض كل تلك الحسابات، فقد انتصر قطز، وانهزم التتار.
فقد كان لقادة التتار تجارب طويلة في الحروب، ولم يكن لقطز وقادته مثلتجارب قادة التتار ولا ما يقاربها، والقائد المجرب أفضل من القائد غيرالمجرب قطعًا، وكذلك الجيش المجرب أفضل من الجيش الذي لا تجربة له.
وكانت معنويات التتار قادة وجنودًا عالية جدًا، لأنهم تقدموا من نصر إلىنصر، ولم تهزم لهم راية من قبل أبدًا، وكانت معنويات قادة قطز وجنودهمنهارة، وقد خرج أكثر القادة إلى القتال كرهًا.
وقد انتصر التتار في حرب الأعصاب، فكانوا ينتصرون بالرعب، مما يؤثر فيمعنويات أعدائهم أسوأ الأثر، والجيش الذي يتحلى بالمعنويات العالية ينتصرعلى الجيش الذي تكون معنوياته منهارة.
وكانت كفاية جيش التتار متفوقة على كفاية جيش قطز فواقًا كاسحًا، لأن جيشالتتار خاض معارك كثيرة، لذلك كانت تجربته العملية على فنون القتال باهرةإلى أبعد الحدود، أما جيش قطز، فقليل التجربة العملية قليل التدريب.
والجيش الذي يتحلى بالكفاية -خاصة في ميدان التدريب العملي- ينتصر على الجيش الذي لا كفاية عملية لديه.
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز عَددًا وعُددًا، وقد ازداد تعداد جيشالتتار بالذين التحقوا به من الموالين والمرتزقة والصليبيين، بعد احتلالهأرض الشام، والتفوق العَددي والعُددي من عوامل إحراز النصر.
وكان جيش التتار يتمتع بمزية فرسانه المتدربين، وكان تعداد فرسانه كبيرًا،مما ييسر له سرعة الحركة، ويؤدي إلى تطبيق حرب الصاعقة التي كانت من سماتحرب التتار، والجيش الذي يتحلى بسرعة الحركة يتغلب عل الجيش الذي لا يتحلىبهذه الميزة.
وكانت مواضع جيش التتار في عين جالوت أفضل من مواضع جيش قطز، لأن تلكالمواضع كانت محتلة من التتار قبل وصول جيش قطز إلى المنطقة التي كانت تحتسيطرة التتار.
وللأرض أثر عظيم في إحراز النصر
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز في قضاياه الإدارية؛ إذ كان يستندعلى قواعده القريبة في أرض الشام، وهي التي استولى عليها واستثمر خيراتها،بينما كانت قواعد جيش قطز بعيدة عنه، لأنه كان يعتمد على مصر وحدها فيإعاشته، والمسافة بين مصر وعين جالوت طويلة؛ خاصة في تلك الأيام التي كانتالقضايا الإدارية تنقل على الدواب والجمال مخترقة الصحاري والوديانوالقفار.
هذا التفوق الساحق الذي بجانب التتار في سبع مزايا حيوية:
التجربة العملية، والمعنويات العالية، والكفاية القتالية، والعدد والعدة،وسرعة الحركة، والأرض، والقضايا الإدارية، هذا التفوق له نتيجة متوقعةواحدة، هي: إحراز النصر على قطز وجيشه أسوة بانتصاراتهم الباهرة على الروموالفرس والعرب والأمم الأخرى في زحفهم المظفر الطويل.
ولكن الواقع أن الجيش المصري انتصر على جيش التتار، فكيف حدث ذلك؟
أولاً: قدّم شيوخ مصر، وعلى رأسهم الشيخ العز بن عبد السلام إرشاداتهمالدينية لقطز، فأخذ بها ونفذها على نفسه وعلى رجاله بكل أمانة وإخلاص،وأمر رجاله بالمعروف ونهاهم عن المنكر، فخرج الجيش من مصر تائبًا منيبًاطاهرًا من الذنوب.
وكان على رأس المجاهدين جميع القادرين من شيوخ مصر على السفر وحمل السلاح وتحمل أعباء الجهاد.
ثانيًا: قيادة قطز الذي كان يتحلى بإرادة القتال بأجلى مظاهرها، فكانمصممًا على قتال التتار مهما تحمل من مشاق، وبذل من تضحيات، ولاقى من صعاب.
ولعل إصراره على مهاجمة التتار خارج مصر، وعدم بقائه في مصر، واختيارهالهجوم دون الدفاع، واستبعاده خطة الدفاع المستكن، هو الذي جعل رجاله قادةوجنودًا في موقف لا يؤدي إلا إلى الموت أو النصر، مما جعلهم يستقتلون فيالحرب، لأنه لم يكن أمامهم في حالة الهزيمة غير الإبادة والإفناء.
إن قطز لم يجاهد ليتولى السلطة، بل تولى السلطة من أجل الجهاد.
ثالثًا: إيمان قطز بالله واعتماده عليه، وإيمان المتطوعين في جيشه منالمجاهدين الصادقين الذين خرجوا طلبًا للشهادة، كان له أثر عظيم في إحرازالنصر.
إن أثر قطز والمجاهدين معه في معركة عين جالوت كان عظيمًا، وحين اطمأن قطزإلى نصر الله ترجل عن فرسه، ومرغ وجهه في التراب تواضعًا، وسجد لله شكرًاعلى نصره، وحمد الله كثيرًا وأثنى عليه ثناءً عاطرًا.
لقد كان انتصار المسلمين في "عين جالوت" على التتار انتصار عقيدة لا مراء.
الشــهيد
لم تمض أسابيع قلائل، حتى طُهرت بلاد الشام كلها من فلول التتار، فرتب قطزأمور البلاد، واستناب على دمشق أحد رجاله، ثم خرج من دمشق عائدًا إلى مصر،إلى أن وصل إلى "القصير"، وبقي بينه وبين الصالحية المعسكر الذي حشد فيهقواته قبل الحركة لقتال التتار مرحلة واحدة، ورحلت قواته إلى جهةالصالحية، فانقض عليه عدد من الأمراء وقتلوه على مقربة من خيمته، ذلك يومالسبت 16 من ذي القعدة سنة 658 هـ- أكتوبر- 1260م، ولم يمض يومان على قتلهحتى حلّ "بيبرس" مكانه باسم الملك الظاهر.
وقد دفن قطز في موضع قتله، وكثر أسف الناس وحزنهم عليه، وكان قبره يُقصد دائمًا للزيارة..
وكانت سلطنة قطز سنة إلا يومًا واحدًا.
وكان قطز بطلاً شجاعًا مقدامًا حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير،كما قال فيه الذهبي، وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوض الله شبابهبالجنة ورضي عنه.
لقد كان قطز صادقًا عزيز النفس، كريم الأخلاق، مجاهدًا من الطراز الأول.
قُتل قاهر التتار مظلومًا، فخسر روحه وربح الدنيا والآخرة، وسجله التاريخفي أنصع صفحاته - رضي الله عنه وأرضاه-، وجعله قدوة صالحة لقادة العربوالمسلمين، فما أشبه غزو التتار بغزو الصهاينة، وما أشبه دعم الصليبيينالقدامى للتتار بدعم الصليبيين الجدد للصهاينة، وما أحوجنا اليوم إلى مثلهقائدًا يتخذ الهجوم مبدأ، ولا يكتفي بالدفاع، ويتخذ العمل منهجًا ولايكتفي بالكلام، ويقاتل اليهود وعباد الصليب على كل شبر اغتصب من دولةالخلافة ويطلب الموت لتوهب له الحياة
.....
..تم بحمد الله ..
إن كل الحسابات العسكرية تجعل النصر إلى جانب التتار بدون أدنى شك، ولكنالواقع يناقض كل تلك الحسابات، فقد انتصر قطز، وانهزم التتار.
فقد كان لقادة التتار تجارب طويلة في الحروب، ولم يكن لقطز وقادته مثلتجارب قادة التتار ولا ما يقاربها، والقائد المجرب أفضل من القائد غيرالمجرب قطعًا، وكذلك الجيش المجرب أفضل من الجيش الذي لا تجربة له.
وكانت معنويات التتار قادة وجنودًا عالية جدًا، لأنهم تقدموا من نصر إلىنصر، ولم تهزم لهم راية من قبل أبدًا، وكانت معنويات قادة قطز وجنودهمنهارة، وقد خرج أكثر القادة إلى القتال كرهًا.
وقد انتصر التتار في حرب الأعصاب، فكانوا ينتصرون بالرعب، مما يؤثر فيمعنويات أعدائهم أسوأ الأثر، والجيش الذي يتحلى بالمعنويات العالية ينتصرعلى الجيش الذي تكون معنوياته منهارة.
وكانت كفاية جيش التتار متفوقة على كفاية جيش قطز فواقًا كاسحًا، لأن جيشالتتار خاض معارك كثيرة، لذلك كانت تجربته العملية على فنون القتال باهرةإلى أبعد الحدود، أما جيش قطز، فقليل التجربة العملية قليل التدريب.
والجيش الذي يتحلى بالكفاية -خاصة في ميدان التدريب العملي- ينتصر على الجيش الذي لا كفاية عملية لديه.
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز عَددًا وعُددًا، وقد ازداد تعداد جيشالتتار بالذين التحقوا به من الموالين والمرتزقة والصليبيين، بعد احتلالهأرض الشام، والتفوق العَددي والعُددي من عوامل إحراز النصر.
وكان جيش التتار يتمتع بمزية فرسانه المتدربين، وكان تعداد فرسانه كبيرًا،مما ييسر له سرعة الحركة، ويؤدي إلى تطبيق حرب الصاعقة التي كانت من سماتحرب التتار، والجيش الذي يتحلى بسرعة الحركة يتغلب عل الجيش الذي لا يتحلىبهذه الميزة.
وكانت مواضع جيش التتار في عين جالوت أفضل من مواضع جيش قطز، لأن تلكالمواضع كانت محتلة من التتار قبل وصول جيش قطز إلى المنطقة التي كانت تحتسيطرة التتار.
وللأرض أثر عظيم في إحراز النصر
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز في قضاياه الإدارية؛ إذ كان يستندعلى قواعده القريبة في أرض الشام، وهي التي استولى عليها واستثمر خيراتها،بينما كانت قواعد جيش قطز بعيدة عنه، لأنه كان يعتمد على مصر وحدها فيإعاشته، والمسافة بين مصر وعين جالوت طويلة؛ خاصة في تلك الأيام التي كانتالقضايا الإدارية تنقل على الدواب والجمال مخترقة الصحاري والوديانوالقفار.
هذا التفوق الساحق الذي بجانب التتار في سبع مزايا حيوية:
التجربة العملية، والمعنويات العالية، والكفاية القتالية، والعدد والعدة،وسرعة الحركة، والأرض، والقضايا الإدارية، هذا التفوق له نتيجة متوقعةواحدة، هي: إحراز النصر على قطز وجيشه أسوة بانتصاراتهم الباهرة على الروموالفرس والعرب والأمم الأخرى في زحفهم المظفر الطويل.
ولكن الواقع أن الجيش المصري انتصر على جيش التتار، فكيف حدث ذلك؟
أولاً: قدّم شيوخ مصر، وعلى رأسهم الشيخ العز بن عبد السلام إرشاداتهمالدينية لقطز، فأخذ بها ونفذها على نفسه وعلى رجاله بكل أمانة وإخلاص،وأمر رجاله بالمعروف ونهاهم عن المنكر، فخرج الجيش من مصر تائبًا منيبًاطاهرًا من الذنوب.
وكان على رأس المجاهدين جميع القادرين من شيوخ مصر على السفر وحمل السلاح وتحمل أعباء الجهاد.
ثانيًا: قيادة قطز الذي كان يتحلى بإرادة القتال بأجلى مظاهرها، فكانمصممًا على قتال التتار مهما تحمل من مشاق، وبذل من تضحيات، ولاقى من صعاب.
ولعل إصراره على مهاجمة التتار خارج مصر، وعدم بقائه في مصر، واختيارهالهجوم دون الدفاع، واستبعاده خطة الدفاع المستكن، هو الذي جعل رجاله قادةوجنودًا في موقف لا يؤدي إلا إلى الموت أو النصر، مما جعلهم يستقتلون فيالحرب، لأنه لم يكن أمامهم في حالة الهزيمة غير الإبادة والإفناء.
إن قطز لم يجاهد ليتولى السلطة، بل تولى السلطة من أجل الجهاد.
ثالثًا: إيمان قطز بالله واعتماده عليه، وإيمان المتطوعين في جيشه منالمجاهدين الصادقين الذين خرجوا طلبًا للشهادة، كان له أثر عظيم في إحرازالنصر.
إن أثر قطز والمجاهدين معه في معركة عين جالوت كان عظيمًا، وحين اطمأن قطزإلى نصر الله ترجل عن فرسه، ومرغ وجهه في التراب تواضعًا، وسجد لله شكرًاعلى نصره، وحمد الله كثيرًا وأثنى عليه ثناءً عاطرًا.
لقد كان انتصار المسلمين في "عين جالوت" على التتار انتصار عقيدة لا مراء.
الشــهيد
لم تمض أسابيع قلائل، حتى طُهرت بلاد الشام كلها من فلول التتار، فرتب قطزأمور البلاد، واستناب على دمشق أحد رجاله، ثم خرج من دمشق عائدًا إلى مصر،إلى أن وصل إلى "القصير"، وبقي بينه وبين الصالحية المعسكر الذي حشد فيهقواته قبل الحركة لقتال التتار مرحلة واحدة، ورحلت قواته إلى جهةالصالحية، فانقض عليه عدد من الأمراء وقتلوه على مقربة من خيمته، ذلك يومالسبت 16 من ذي القعدة سنة 658 هـ- أكتوبر- 1260م، ولم يمض يومان على قتلهحتى حلّ "بيبرس" مكانه باسم الملك الظاهر.
وقد دفن قطز في موضع قتله، وكثر أسف الناس وحزنهم عليه، وكان قبره يُقصد دائمًا للزيارة..
وكانت سلطنة قطز سنة إلا يومًا واحدًا.
وكان قطز بطلاً شجاعًا مقدامًا حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير،كما قال فيه الذهبي، وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوض الله شبابهبالجنة ورضي عنه.
لقد كان قطز صادقًا عزيز النفس، كريم الأخلاق، مجاهدًا من الطراز الأول.
قُتل قاهر التتار مظلومًا، فخسر روحه وربح الدنيا والآخرة، وسجله التاريخفي أنصع صفحاته - رضي الله عنه وأرضاه-، وجعله قدوة صالحة لقادة العربوالمسلمين، فما أشبه غزو التتار بغزو الصهاينة، وما أشبه دعم الصليبيينالقدامى للتتار بدعم الصليبيين الجدد للصهاينة، وما أحوجنا اليوم إلى مثلهقائدًا يتخذ الهجوم مبدأ، ولا يكتفي بالدفاع، ويتخذ العمل منهجًا ولايكتفي بالكلام، ويقاتل اليهود وعباد الصليب على كل شبر اغتصب من دولةالخلافة ويطلب الموت لتوهب له الحياة
.....
..تم بحمد الله ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق